«بيشتِغِل اكثر وبيقبَض أقل»، «كلّ راتب موظف لبناني بـ3 موظفين سوريين». هكذا يبرّر ارباب العمل استبدالهم العمالة اللبنانية بأخرى سورية،المشكلة في حقيقتها أخطر مما تبدو، وتحتاج المعالجات الى قرار حازم يتخذه المسؤولون اللبنانيون.
لم يعد السوريون يشغلون وظائف مرتبطة بالأعمال اليدوية كما جرت العادة في السابق، لكنهم اليوم، وبعد تدفقهم الى لبنان بأعداد هائلة جراء الأزمة السورية، استولوا على حيّز كبير من سوق العمل اللبناني، واحتلّوا مناصب كانت في السابق حكرا على اللبناني ومحظورة على الأجانب، وفقا لقانون العمل اللبناني.
لطالما عانى لبنان من أزمة بطالة دفعت شبابه الى الهجرة في ظل غياب فرص العمل. وبعد ان كان ثلث الشباب اللبناني عاطلاً عن العمل قبل تدفق اللاجئين السوريين، ارتفعت نسبة البطالة في صفوف الشباب اليوم الى 67 في المئة في ظل وجود 1,2 مليون لاجئ سوري.
فهل تتحرّك وزارة العمل والحكومة اللبنانية نحو قرار مماثل للقرار الاردني المتمثل بترحيل 5723 عاملا سوريا مخالفا؟
الاسكوا
في هذا الاطار، يرى رئيس وحدة النمذجة الاقتصادية في منظمة الامم المتحدة للتنمية لدول غرب آسيا (الاسكوا) محمد هادي بشير، ان السكان الذين كانوا يعيشون في لبنان قبل الأزمة السورية (السكان الاصليون) سيعانون من انخفاض حاد في عائداتهم (10.5 مليار دولار) بسبب تراجع الاجور بنسبة 50 في المئة نتيجة زيادة العرض في سوق العمل بنسبة 76 في المئة.
وفي حال استيعاب سوق العمل اللبناني 25 في المئة من اللاجئين، فإن معدل البطالة سيبلغ 9 في المئة. اما إذا لم تمتص سوق العمل ايا من اللاجئين، فإن معدل البطالة سيصل إلى 29 في المئة.
وحول استبدال العمالة اللبنانية بالسورية، يقول بشير لـ"الجمهورية" ان العمال السوريين كانوا يتنافسون مع العمال اللبنانيين، قبل الأزمة، على الوظائف التي تتطلب مهارات بسيطة. ولكن بيانات الاسكوا الحديثة أظهرت أنه بعد اندلاع الأزمة السورية، تم تسجيل تدفق كبير لسوريين ذي خبرة ومهارة، باتوا يتنافسون اليوم مع العمالة اللبنانية الماهرة، بما يعني أن الأجور سوف تنخفض في كافة القطاعات بفضل نسبة العرض الكبيرة.
وحول تأثير الأزمة على مختلف القطاعات، يستنتج رئيس وحدة النمذجة الاقتصادية في الاسكوا أن جميع القطاعات باستثناء واحد (الخدمات التسويقية) قد تأثرت سلبا جراء الأزمة. ويُعتبر القطاع التجاري الاكثر تضررا، متراجعا بقيمة 1,875 مليار دولار مقارنة بمستوى الاساس المعتمد BAU base line، يليه القطاع الصناعي بتراجع بلغ 1,451 مليار دولار، والقطاع الإداري بتراجع بلغ 964 مليون دولار.
في المقابل، يلفت بشير الى ان القطاع الوحيد الذي استفاد من الأزمة، هو قطاع الخدمات التسويقية الذي شهد زيادة في حجم الاعمال بلغت 439 مليون دولار، بسبب ارتفاع نسبة العرض في العمالة، إلا ان معظم تلك الخدمات يوفرها القطاع غير الرسمي.
البنك الدولي
بدوره، يقدّر البنك الدولي ان يؤدّي التدفق الشديد للاجئين السوريين إلى تفاقم الأوضاع الصعبة في سوق العمل، وإلى المزيد من البطالة والعمالة غير الرسمية. كما يتوقع أن يؤدي تدفق اللاجئين إلى زيادة العرض بين 30 و50 في المئة، ممّا يتطلب تطبيق برامج سوق العمل الرامية إلى تحسين مستوى المعيشة وفرص الارباح على الأمد القصير.
ويرجّح البنك الدولي أن يخفّض الصراع بين 2012 - 2014، معدل النمو الحقيقي في الناتج المحلي بنحو 2.9 نقطة مئوية لكل سنة، بما سيؤدّي الى خسائر كبيرة في الرواتب، الارباح، الضرائب، والاستهلاك الفردي، والاستثمار، ويدفع نحو 170 الف لبناني تحت خط الفقر فضلا عن مليون يعيشون حاليا دون هذا الخط، ويضاعف البطالة الى ما يزيد على 20 في المئة.
الاب خضرا
من جهته، يقول الاب طوني خضرا، رئيس مؤسسة "لابورا" للتوظيفات، ان العمالة السورية تسببت بانفجار قنبلة في سوق العمل اللبناني، ويكشف لـ"الجمهورية" ان نسبة البطالة في لبنان تبلغ اليوم 37 في المئة وقد تضاعفت مقارنة بالعام الماضي لتصل الى 60 في المئة في اوساط الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 23 و26 عاما.
وفيما يعتبر ان حلّ مشكلة اللاجئين السوريين وقع على عاتق اللبنانيين، يشير الى ان نسبة البطالة كانت عمليا في حدود الـ30 في المئة في العام 2012.
ويلفت الى انه يستقبل يوميا اشخاصا تمّ تسريحهم من وظائفهم يفوق عمرهم الخمسين عاما، وكانوا قد عملوا في المؤسسة لاكثر من 16 عاما، ليتمّ استبدالهم في نهاية المطاف بالعمالة السورية.
ويقول الاب خضرا ان المشكلة تتمثل بالفوضى القائمة في سوق العمل اللبناني، وعدم الالتزام بقانون العمل وفرض ضمانات للوظائف، "هناك فلتان في عمليات التوظيف في كافة القطاعات، خاصة في قطاعي الصناعة والزراعة".
قانون العمل
يلحظ قانون العمل اللبناني، مبدأ التعامل بالمثل مع الاجانب، فكما يحق للبناني العمل والانضمام الى الضمان الاجتماعي في سوريا، يتمّ في لبنان معاملة السوريين على هذا الاساس ايضا. إلا ان القانون يشدد على مبدأ عدم المنافسة مع العمالة اللبنانية عند توظيف اي عامل اجنبي، ويعتبر المهن المنظمة بقانون كالمهن الحرة (الطب، المحاماة، الصيدلة، الهندسة...) والوظيفة العامة حكرا على العمالة اللبنانية. ويمكن فقط تجاوز هذا الحكر من خلال الحصول على إذن خاص من الادارة المعنية بالتوظيف.
كما يتوجب على العامل الاجنبي الحصول على اجازة عمل بشكل سنوي يتم منحها وفقا لشروط محددة ابرزها وجود كفيل لبناني، وعدم فتح باب المنافسة مع العمال اللبنانيين.
لذلك، احتكر السوريون في لبنان على مرّ السنين، الاعمال اليدوية في قطاعات كالبناء والصناعة والزراعة وغيرها. وباتت المؤسسات المعنيّة تتعاقد معهم بموجب عقود عمل تنص على شغلهم وظيفة "عتّال"، لتضمن حصولهم على اجازة العمل.
لكنّ وزير العمل سليم جريصاتي اعطى امتيازات اكبر للعمال السوريين عبر تعديله في 2 شباط 2013 بعض المواد في قانون تنظيم عمل الأجانب، لمصلحة المواطنين السوريين فقط، فأصبح بإمكانهم مزاولة المهن الخاصة بأعمال البناء والكهرباء والنجارة والصيانة، إضافة إلى وظائف: المهن الفنية في قطاع البناء ومشتقاته - مندوب تجاري - مندوب تسويق - أمين مستودع - التمديدات الكهريائية - حاجب وحارس - خياطة - مراقب أشغال - حدادة - ميكانيكي- اعمال صيانة.
لكنّ المشهد تبدّل اليوم، واختلفت الصورة بين مرحلة ما قبل بدء الأزمة السورية، ومرحلة تدفق اكثر من 1,2 مليون سوري الى لبنان. وفيما كان تواجد العامل السوري يقتصر على ورش البناء والمعامل والمقاهي كـ"شبّ النرجيلة" في افضل الحالات، بات اليوم معمما على مختلف المهن الحرّة.
أصبحت العمالة السورية متواجدة في أفخم فنادق ومطاعم لبنان، في خدمات الاستقبال والادارة، على الرغم من ان نقيب اصحاب الفنادق بيار الاشقر يؤكد انها تشغل وظائف التنظيف فقط.
كما ترددت معلومات عن استبدال صيدليات موظفين لبنانين بآخرين سوريين في اطار استراتيجية تقشف، لكن نقيب الصيادلة ربيع حسّونة أكد لـ"الجمهورية" ان القانون يحظر هذا الاجراء، مشيرا الى ان مزاولة مهنة الصيدلة في لبنان تتطلب اذن مزاولة من وزارة الصحة، وبطاقة انتساب الى نقابة الصيادلة، وتشترط ان يكون الصيدلي لبناني الجنسية.
عملية الاستبدال هذه، اعتُمدت في الشركات والمؤسسات بذريعة التقشّف ايضا، ولكن ما يغفله ارباب العمل ووزارة العمل بالدرجة الاولى، ان قانون العمل اللبناني يتضمن الآتي:
تلغى اجازة العمل في اي وقت كان عند ظهور مستندات غير صحيحة، وكلما قضت مصلحة اليد العاملة اللبنانية بذلك، ولا سيما في الحالات الاتية:
- اذا صرفت المؤسسة اجيرا لبنانيا عملا بأحكام المادة الخمسين من قانون العمل اللبناني، وابقت على اجير اجنبي مواز له في الكفاءة وشروط العمل.
- اذا رفضت المؤسسة اعطاء تفضيل العمل الى لبناني تتوافر فيه شروط العمل الملائم.
- اذا لم تقم المؤسسة بتعهداتها في تدريب اللبناني على العمل بدلا من الاجنبي.
مرقص
في هذا السياق، يوضح الخبير القانوني بول مرقص لـ"الجمهورية" ان قانون العمل الصادر في العام 1946 لم يعد صالحا لمجاراة حاجات سوق العمل في لبنان والقيود التي تُفرض على العمالة الاجنبية، رغم وجود مشروع قانون لتعديل قانون العمل والذي لم يقرّ لغاية اليوم.
ويشير الى ان وجود نص خاص للعمالة الاجنبية، المرسوم رقم 17561 تاريخ 18 ايلول 1964 الذي لا يضع نصوصا خاصة بالعمال السوريين، وبالتالي فانه من غير الجائر تطبيق هذه النصوص على العمال الاجانب عموما، على وضعية العمال السوريين الذين يتوافدون الى لبنان استسهالا، ويعملون غالبا من دون اوراق ثبوتية كاجازة العمل والاقامة.
ويقول مرقص ان الوظائف المنظمة بقانون محصورة باللبنانيين ولا يمكن عدم استقصاء العمالة الأجنبية التي قد تشغلها، إلا ان النشاطات غير المنظمة فـ"حدث ولا حرج" عن حجم الفلتان في تلك القطاعات، والمنافسة التي تخلقها مع اليد العاملة اللبنانية، رغم ان القانون ينص على عدم توظيف اي عامل اجنبي من دون اجازة عمل.
ويوضح ان رقابة وزارة العمل مقيّدة، اولا، من ناحية القطاعات القليلة التي تخضع لوصايتها، وثانيا بافتقارها للمندوبين القادرين على ضبط سوق العمل في ظل تدفق اللاجئين. في المقابل، استغرب مرقص غياب خطط المواجهة من قبل الوزارات اللبنانية لحالة اللجوء هذه.
المصدر: صحيفة "الجمهورية "اللبنانية