منذ أزمة المال العالمية في الـ2008، زاد تعرض وكالات التصنيف الائتماني للانتقاد والتشكيك بصدقية مُسّت مباشرة اثر سقوط مصرف "ليمان براذرز" بعد يومين على منحه تصنيف AAA، اي "الاكثر امانا"... وثمة مَن يعتبر ان تلك الوكالات هي مجرد "اجهزة استخبارات اقتصادية" تحكم قبضتها على السوق. فما الوزن الذي تحتله وكالات التصنيف في العمل الاقتصادي والمصرفي؟ وكيف تكون الخصم والحكم في آن واحد؟
لم يعد خبر التصنيف الائتماني مفاجئا. وهذا ما ينطبق على اعلان وكالة "ستاندرد اند بورز" اخيرا، خفض تصنيف ثلاثة مصارف لبنانية هي "بنك عوده" و"بنك لبنان والمهجر" و"بنك البحر المتوسط" بعد خفض تصنيف لبنان السيادي من B الى B- في موجة تصنيفات شملت العديد من دول العالم. وقد حرص المعنيون بالقطاع المصرفي على تفسير مسببات التصنيف التي حصرتها الوكالة في دائرة "المؤثرات السياسية والامنية" المرتفعة على نحو لافت بفعل استمرار تفاقم ازمة سوريا. لكن المهم، ان التصنيف لم يستند على تقييم الاداء المالي والمؤسساتي لتلك المصارف الثلاثة.
ومعلوم ان تقارير وكالات الائتمان الثلاث "ستاندرد اند بورز" و"فيتش" و"موديز" تتكرر دوريا لتعلن رفع التصنيف او خفضه وفقا لمعايير ونظم تضعها على شكل اختبارات لقياس الاداء العام. ويدل التصنيف على مدى قدرة دولة أو مؤسسة ما على تسديد ديونها، فتكون المرتبة بمثابة اشعار او انذار الى المجتمع الدولي ليدرك كيف يتعامل تمويلا او تبادلا مع الجهة المصنّفة، وخصوصا في الأسواق الداخلية أو الخارجية.
وكانت شركات خدمات المعلومات الائتمانية قد انشئت في منتصف القرن التاسع عشر لحاجة المستثمرين والمقترضين الى سدّ فجوة المعلومات بينهم، والرغبة في توفير معلومات موثوقة عن مستوى الاخطار في إقراض الحكومات والمؤسسات والشركات والأفراد. واستخدمت هذه المعلومات بداية القرن العشرين لإنشاء وكالات التصنيف الائتماني وتطوير صناعة تصنيف الائتمان والجدارة الائتمانية. وكان جون مودي اول من أصدر مؤشرات الجدارة الائتمانية، عندما صنّف سندات شركة السكك الحديدي في الولايات المتحدة عام 1909، لينتشر بعدها تصنيف الحكومات والمؤسسات والسندات. وبحلول 1929، كانت وكالة "موديز" تقوم بتصنيف 50 حكومة تصدر سندات إقراض في الاسواق الدولية، بينما بدأ تصنيف الأفراد ائتمانياً في خمسينات القرن الماضي.
لكن، ما أهمية تصنيفات تلك الوكالات؟
يقول عضو لجنة الرقابة على المصارف امين عواد، ان تلك الوكالات هي شركات تجارية خاصة غير خاضعة لاي جهاز او سلطة حكومية. ولفت الى انها تعمل بحسب آليات معينة، ولكن غير منظمة، وتستهدف تصنيف دول او مؤسسات بناء على طلبها، وايضا بقرار تلقائي ذاتي. "وهذا ما ينطبق على لبنان، حيث تُصنّف الدولة من دون طلب منها، بخلاف المصارف الثلاثة التي طلبت اصدار تصنيف لها".
ما تأثير ذلك التصنيف؟
اذ يقرّ بعدم وجود مرجع تصنيفي سوى تلك الوكالات، يشير عواد الى شكوك تحوط صدقيتها، وخصوصا بعدما منحت مصرف "ليمان" علامة AAA، وكان اول المتعثرين في ازمة المال عام 2008. “لكن بما انه لا يوجد الا تلك الشركات الثلاث، فالعالم مرغم على قبول تصنيفاتها، لان الدول تعتمد عليها في آليات التعامل مع الدول الاخرى". ونفى ان يكون للتصنيف الاخير اي تأثير في السوق المحلية، "ولكن ربما ثمة تأثير في الاسواق الخارجية، وخصوصا على كلفة الاقتراض من الاسواق".
في العادة، يؤثر التصنيف الائتماني لمؤسسة او دولة على أسعار أسهمها أو أسواق مال تلك الدولة سلبا أو إيجابا. وتسيطر كل من "ستاندرد آند بورز" و"موديز" على تصنيف أكثر من 80% من إصدارات الدين حول العالم سواء للشركات أو الحكومات أو البلديات والحكومات المحلية، فيما تعد "فيتش" أقل سمعة نسبيا مقارنة بالشركتين الأخريين. عموما، تسيطر الشركات على نحو 90 الى 95% من سوق إصدار الديون في العالم رغم وجود نحو 150 وكالة تصنيف ائتماني منتشرة حول العالم. الا ان تلك الوكالات الثلاث تتمتع بنفوذ قوي في عالم المال والاعمال وتعتبر احد اهم اللاعبين في الأسواق المالية وتحديدا في اسواق السندات والديون، حيث بدأت تبسط سيطرتها بعد تنظيم هيئة الاوراق المالية الاميركية SEC في 1975، مما جعل بعض المراقبين الى اعتبارها بمثابة "اجهزة استخبارات اقتصادية"، تستقصي كل ما يتاح لها من معلومات عن الحكومات والمؤسسات المالية والمصرفية، حتى انها اعتبرت مسؤولة عن جزء من ازمة المال العالمية (2008).
ويقال ان تلك الشركات تبسط سيطرتها ونفوذها على سوق الدين والسندات بعد تنظيم هيئة الأوراق المالية الأميركية SEC الذي يعتمد هذه الشركات الكبرى مزوداً لخدمات التصنيف الائتماني، ويُلزم بعض الصناديق الاستثمارية والمؤسسات المالية بالاستثمار في أدوات الدين ذات الجدارة الائتمانية المرتفعة، مما أدى إلى تسابق الشركات للحصول على تصنيفات ائتمانية مرتفعة حتى تكون ديونها مرغوبة من فئة كبيرة من المستثمرين، وهذا ما ساعد سلطة الاحتكار والتسلط لدى تلك الوكالات.
سورية اسم في خريطة تضم دول كبرى تخضع لتصنيفات تلك الوكالات، من الولايات المتحدة الى اوروبا وكافة انحاء العالم. فان كان الضرر واقعا نتيجة لخفض التصنيف، فلا ضير من اعتباره انذارا يفترض تحسين الاداء كي لا يكون موقع تحفظ او انتقاد.