في كل دول العالم عندما تقاد السياسات الاقتصادية بأوجهها المختلفة من ضريبية ونقدية واجتماعية فإنها تستهدف سمتا محددا ترغب بالملاحة؟ نحوه.
وللوصول إلى أهداف معلنة تقوم الدول بتحديد برامج عمل تركز على قوانين وأنظمة بما يناسب اليسر المطلوب لأجواء العمل والاستثمار وتختار ضرائب دون أخرى وأسعار عالية أو منخفضة للعملة المحلية لتشجيع العمل أو جذب الرساميل المالية أو غيرها من أولويات الحكومات المعنية بقطاعات تراهن على أنها القاطرة لغيرها. ويستلزم تحقيق كل ذلك وجود الإرادة والكوادر والخبرة والمواظبة والموارد المالية اللازمة للتنفيذ. وبالعودة إلى إشكاليات التنمية في سورية طوال العقود الماضية نتساءل هل كانت مشاكلنا حقاً وجود تهديدات عسكرية من الجوار أم في توافر الأموال اللازمة؟
بالعودة إلى سنوات الخير التي مرت على سورية في غير عقد يمكننا القول إن حجة توافر التمويل اللازم مردود عليها. أما عن التهديدات والمعارك وغيرهما فلا بد لنا من الاستئناس بشقيقنا الأصغر لبنان الذي تمكن في بعض سنوات من تحقيق حجم ناتج سنوي يقارب ناتج سورية!
بالعودة لتجربة لبنان مع الحرب الأهلية نجد أنه بعد عشر السنوات الأولى من حرب بدأت عام 1975 (وتخللها اجتياح إسرائيل لبيروت وتغيير أكثر من حكومة وخلخلة في التوازنات الجيوسياسية بين الدول المعنية) لم تفقد ليرته اللبنانية أكثر من 60% من قيمتها. ومن بين مختلف المؤسسات الرسمية اللبنانية بقي المصرف المركزي بحكامه المتعاقبين يحاولون الحفاظ على رصانة وقدرة ذلك المصرف على التوفيق بين ضبط المصارف التجارية من جهة وخدمة احتياجات الحكومة عبر إيجاد الطرق المناسبة لتمويل عجوزات الخزينة. فهل كان استهداف ثبات العملة هو الحل المناسب؟
تمكنت «الطوائف» اللبنانية خلال عشر السنوات الأولى من تحقيق أرقام قياسية في التخريب فقد دمرت بشكل مباشر أكثر من ثلاثة أضعاف ناتجها المحلي وما يعادله بشكل غير مباشر. ورغم الحرب تمكن مصرف لبنان في بداية الثمانينيات من تحقيق أرباح تآكلت مع انخفاض سعر الصرف في النصف الثاني من الثمانينيات. ويلاحظ من الإحصائيات أنه باستثناء السنوات الممتدة من 1986حتى 1992 كانت سياسة لبنان تعتمد على تثبيت سعر الصرف.
ولكن تلك السياسة لم تغير من مصير الجنوب والشمال وحصته من الإهمال لمصلحة جبل لبنان وبالأخص بيروت التي تعج بالمتناقضات بين وسطها وضواحيها وحاراتها. ونجم عن الحرب وتلك السياسات «التنموية» تغييرات درامية في مختلف المجالات بما فيها الديمغرافيا وعشوائية السكن وسوء التخطيط لنوع الاقتصاد المستهدف. وكان السعي الدائم في حل المشاكل عبر الاقتراض (على حساب الأجيال المستقبلية) وعبر ضريبة التضخم في العديد من السلع الحيوية وعلى رأسها السكن والطعام (على حساب الفقراء وذوي الدخل المحدود). وكان الناتج الأوضح هو انسلاخ اللبناني عن هويته وانتمائه الوطني ليصبح لاجئاً ضمن الطائفة في كثير من المواقف والمجالات التي استمرت عقابيلها إلى ما بعد الحرب.
ولكن ورغم ضخامة الدين اللبناني الذي وصل إلى نحو 150% من قيمة الناتج المحلي بقي حرص المركزي اللبناني متنبهاً إلى حقيقة الاقتصاد اللبناني وكونه من طبيعة ريعية تعتمد على الخدمات وخاصة المصارف التي حققت مكتسبات كبيرة من كون لبنان ملاذ «الثروات والنزوات العربية» ولو أن دبي أخذت هذا الدور عنه منذ نهاية القرن الماضي. وحقيقة الودائع الكبيرة والأرباح الهائلة التي تحققها المصارف اللبنانية هي التي دعت مصرف لبنان منذ بدايات الحرب اللبنانية لطرح سندات الخزينة اللبنانية وإجبار المصارف اللبنانية على الاكتتاب عليها سواء عبر المفاوضات أو عبر فرض القوانين اللازمة بهذا الخصوص.
وإذا كانت دول أخرى تستهدف نسبة تضخم معينة وتعتبرها هاجسها الأساسي فإن بلداناً أخرى تعتبر سعر القطع هو الهدف من أجل زيادة الصادرات أو ترشيد الاستيراد وغيرها. وبالنظر إلى قدرة العديد من الدول التي استطاعت تحت العقوبات أو في ظل الحرب تمكنت من تنفيذ أهداف اقتصادية معينة. هنا نتساءل ما أهداف سياساتنا الضريبية والاجتماعية.
بما أن سعر الصرف يعبر عن حجم التبادلات مع الخارج نجد أنه من الطبيعي في ظل الظروف الحالية أن يستمر سعر الصرف بالهبوط لأنه لا يمكن تنفيذ عمليات التجارة الخارجية من جهة ولا يوجد طلب داخلي كاف بظل انهيار القدرات الشرائية لكثير من المواطنين. وهنا لا بد من التنويه إلى أن الانخفاضات الحادة بالدولار إلى ما دون 100 ليرة (وهو أمر متوقع بظل اشتداد حدة المعارك وقطع الطرقات) ستكون كارثية إن غابت عنها السياسات النقدية والاقتصادية المرافقة والتي يفترض بها أن تمنع تعاظم القدرة الشرائية الهائلة لمن استحوذ على الكتلة السورية من مضاربات الصيف الماضي. وهؤلاء سيكون بمقدورهم للفترة الحالية والقادمة تحقيق الكثير من المشاريع التي قد تكون خطراً على صحة الاقتصاد بما في ذلك الاستحواذ على ورشات إعادة الاعمار وامتلاك عقارات بطرق مريبة في المناطق المتضررة أو غيرها تمهيدا للزمن القادم. كما أنهم بقدراتهم التي جمعوها بكثافة في تقلبات أسعار القطع (والمتعاظمة مع الانخفاض المكثف للدولار حاليا) سيشكلون حيتاناً حقيقية يتطلب الأمر من السلطات المعنية ضبط سلوكياتهم بما يضمن منع المزيد من الانهيار بالقدرات الشرائية ومنع المزيد من النزوح نحو مستويات الفقر.
وهنا نذكر بأن لبنان في فترة السبعينيات والثمانينيات استعمل كممر لتهريب الكثير من البضائع إلى سورية التي كانت حينها تحت العقوبات. وهذا ما يفسر جزءا من قدرتها على الصمود لسنوات طويلة قبل نهاية الحرب فيها. وبالعودة إلى الجار اللبناني نجد أن الانهيار الحقيقي للعملة بدأ بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانقشع الغبار عن حجم المصائب. وهنا نؤكد من جديد أن المحك الحقيقي لليرة لم يحن موعده بعد وسيبدأ مع أي انفراج ولو ضئيلاً بالأوضاع الأمنية. وهذا ما يستدعي تحضير ما يلزم للمستقبل القادم وتقوية الدفاعات الاقتصادية للحكومة السورية. وهنا نعود للتأكيد أن مصرف سورية المركزي بطريقة إدارته سابقاً وحاليا لم يتمكن من ضبط حساباته غير المصدّق عليها بشكل نهائي منذ 1974. وهو مجرد من أدوات السيطرة على السوق حيث لا تسمح له نسبة الاحتياطي الالزامي بأن يكون فاعلا، ولا تعاملاً حقيقياً لديه بسعر الخصم والسوق المفتوحة لم تفتح يوماً إضافة إلى تخبطه بأطنان من التقارير والأوراق التي يطلبها دوريا من المصارف العاملة ومن شركات صيرفة. وبمناسبة الحديث عن شركات الصيرفة حاولنا مرارا الإشارة إلى أن السوق السوداء لا تنتهي بمجرد الترخيص لها. فهي تعمل على بيع وشراء القطع. وبظل غياب القطع اللازم لتأمين متطلباتها فلا بد أن ينجم عنها سلوكيات سوداء خاصة في ظل الأزمات وغياب القدرة الحقيقية على مراقبة نشاطها. والمراقبة لا تكون بالإجراءات الروتينية والعلاجية وإنما بوجود رؤية متكاملة تسمح بوضع خطط تنفيذ مقبولة لا تسمح بتمييع المهمات عبر مصطلحات يصعب فهمها حتى على المختصين وخاصة أنها على الأغلب لا تكون مترابطة وبشكل مقصود. وبعودة الليرة السورية إلى مستويات كانت عليها أمام الليرة اللبنانية في الثمانينيات نعود لمقارناتنا مع مصرف لبنان.
إذا كان مصرف لبنان طوال الحرب حريصاً على تقاسم ما يحققه من الأرباح مع الحكومة اللبنانية ويؤكد على أهمية وجود الأرصدة اللازمة لملاءته أمام الخارج من جهة وأمام المصارف اللبنانية من الجهة الأخرى (ليتمكن من فرض الاحترام واستعمال أدواته بما فيها إعادة الخصم)، نتساءل:
لماذا «نخجل» من وضع الضوابط اللازمة أسوة بجارنا اللبناني لإجبار المصارف الخاصة على الاكتتاب بسندات الخزينة السورية بنسبة من ودائعها لتوزيع العبء بين المصارف وعدم تحميل العبء على المصارف العامة فقط (وخاصة التجاري أو الزراعي أو المركزي)؟ وهنا نذكر بأن سورية (رغم كل التقلبات بثبات معدلات الفائدة من 1982 ولأكثر من 20 عاماً) تحققت فيها طفرات اقتصادية غير مدروسة من حيث الديمومة والثبات في بيئة يمكن السؤال فيها عن الأسباب التي تجعل الجهات العامة تسهو عن أهدافها الحقيقية. فوزارة المال تجهد بجيش من الموظفين لتجميع حصيلة ضريبية يمكن وصفها بالهزيلة (بالمقارنة بدول كثيرة) بسبب ضمور إنتاجية العام وتهرب كثيف من الخاص وغياب الرؤية الشمولية للسياسات الاقتصادية الحالية. أما المصرف المركزي فيمارس أدواره التقليدية لودائع الجهات العامة وغيرها من المهام التقليدية البسيطة إضافة إلى حسم سندات خزينة لتمويل عجز متفاقم..
لماذا لا يتوقف المركزي عن تعداد القرارات الورقية التي اتخذها (من دون أي أثر يذكر على مستوى معيشة المواطن)؟ ولم يتأخر عن تنفيذ أساسيات العمل المصرفي الداخلي مثل ربط فروعه وأتمتة عملياته الداخلية ليضمن من خلالها القدرة على تركيب واجهات ربط حقيقية مع باقي المصارف تفيد في:
1- مقاصة الشيكات أولاً كونها تشكل العبء الحقيقي لأن الناس تفضل التعامل بالكاش في ظل عدم القدرة على التحصيل السريع للشيكات. إضافة إلى حقيقة أن التعامل بالشيكات (وخاصة من القطاع العام) أكبر بكثير من عدد الحوالات المطلوب تنفيذها يومياً.
2- أنظمة التحويل الإجمالي اللحظي التي لا معنى لتركيبها بغياب أتمتة وربط فروع المركزي من جهة وأتمتة وربط باقي فروع المصارف العامة مع إداراتها
3- مختلف الأنظمة والبرمجيات ذات الصلة بما فيها مركزية المخاطر بناء على تواصل وتوصيف أكثر فاعلية من البنية الحالية التي يشوبها الكثير من الإشكالات إضافة إلى وجود بنية وطنية تسمح بالتفاعل بين محولات الدفع الإلكتروني وغيرها من أنظمة الدفع اللازمة لعمل مصرفي سليم.
كانت تلك بعض الأسئلة التي تستحق الطرح على المصرف المركزي بشكل خاص وهناك العديد من الأسئلة الأخرى التي يفترض بنا طرحها على الوزارات والجهات العامة الأخرى وخاصة أن العديد من تلك التساؤلات والأفكار سبق أن طرحت وبشكل تفصيلي في بعضها ولكن كان مصير تلك الدراسات هو التحنيط كالمعتاد.
المصدر: صحيفة "الوطن " المحلية