أعترف أولاً أنني لم أقرأ مسودة مشروع القانون الجديد للتشاركية بين القطاعين العام والخاص ولكنني استنتجت مما قرأته في الصحف من تحفظات وزارة الصناعة على مسودة المشروع "البعث 12-8-2013" ومعارضة الاتحاد العام العمال له "بلدنا 4-12-2013" أن مسودة مشروع القانون الجديد تخلط بين التشاركية في القطاع الإنتاجي والخدمي والتشاركية في تطوير البنى التحتية.
وأعتقد أنه من الأفضل أن يشمل قانون التشاركية تطوير البنى التحتية حصراً "الكهرباء، الطرق، السكك الحديدية، المياه، الصرف الصحي"، نظراً لخصوصية هذه المشاريع والتشاركية فيها، وأن يترك للقوانين النافذة "قوانين الشركات والتجارة وغيرها" تنظيم التشاركية في القطاعات الإنتاجية "الصناعة، الزراعة، السياحة، وغيرها" والقطاعات الخدمية "التعليم والصحة".
فمفهوم التشاركية الذي بدأ يطل على المشهد الاقتصادي العالمي في الخمس وعشرين سنة الماضية جاء لتشجيع القطاع الخاص "خاصة في الدول النامية" على تولي قسطاً من الاستثمارات اللازمة لمشاريع البنى التحتية التي تطلع بها الدولة عادة.
وهي المشاريع غير الهادفة إلى الربح والتي تتطلب نفقات رأسمالية باهظة توظف لآجال زمنية طويلة، وذلك لإفساح المجال للدولة لزيادة إنفاقها على المشاريع الاجتماعية والخدمية وتقليص عجزها المالي.
فجاءت قوانين الدول لتنظم العلاقة بين جهة تهدف إلى تقديم خدمة عامة وأخرى تهدف إلى الربح، وتضمنت هذه القوانين حوافز للقطاع الخاص ليقوم باستثمارات طويلة الأجل، عالية المخاطر ما كان ليقدم عليها، وضمانات تحفظ حقوق الدولة والمواطن.
وكنا في سورية بحاجة لهذه التشاركية لجذب القطاع الخاص لمثل هذه المشاريع "وبحاجة لقانون ينظم هذه التشاركية" قبل الأزمة، وأصبحنا أكثر حاجة إلى هذه التشاركية والقانون المطلوب في مرحلة إعادة الإعمار وما بعدها، نظراً للأعباء المالية والبشرية والإدارية الهائلة التي ستترتب على الدولة في مرحلة إعادة الإعمار "إعادة البناء، إعادة المهجرين وإسكانهم، تكاليف الإغاثة، خلق فرص عمالة، مواجهة الفقر الجديد والقديم، التعويض على المتضررين، إعادة السلم الأهلي". وتقليص اضطرار الدولة للاقتراض الداخلي والخارجي، في ظل محدودية، لا بل تدني، مواردها المالية المحلية واحتياطاتها من القطع الأجنبي بسبب الأزمة.
وللتوضيح فإن التشاركية هذه ليست خصخصة، بل هي قيام القطاع الخاص بإنشاء وتمويل مرفق عام وإدارته على مدى سريان العقد "الذي قد تصل مدته إلى عشرين سنة أو أكثر"، وتحويل ملكية المشروع إلى القطاع العام في نهاية العقد، بينما تعني الخصخصة "الكاملة" نقل ملكية أصول من القطاع العام إلى القطاع الخاص.
وينظم قانون التشاركية عادةً آليات التشارك والتعاقد بين القطاعين "طرح المناقصات والمزايدات، والإشراف على التنفيذ"، ويسمح بمنح القطاع الخاص حوافز للدخول في الاستثمار مقابل المخاطر التي سيتحملها، وبنفس الوقت يحفظ حق الدولة والمواطن، من خلال تحديد تعرفة الخدمات التي يقدمها المرفق العام "مثل تعرفة الكهرباء وتعرفة المياه وتعرفة الطرق".
وتبقى الدولة مسؤولة تجاه المواطن عن توفير خدمة المرفق العام. ويشمل القانون في بعض الأحيان إقامة هيئة قضائية ذات صلاحيات مبرمة للفصل في أي خلاف ينشأ بين الدولة والقطاع الخاص، نظراً لطول مدة العقد واحتمال بروز مخاطر عديدة ومتنوعة خلال تنفيذه، مثل مخاطر الإنشاء ومخاطر الطلب ومخاطر تغير الأنظمة والقوانين في البلد والمخاطر السياسية وغيرها.
أما العقد فيتضمن عادة تحديد الخدمات المطلوبة من القطاع الخاص المتعاقد وتحديد المخاطر وتوزعها بين الدولة والقطاع الخاص المتعاقد والجهة المصرفية الممولة، ويضع معايير للأداء وعقوبات على مخالفة هذه المعايير؛ كل ذلك لتحقيق التوليفة المناسبة بين الجانب التنموي للمشروع والربحية التجارية المشروعة للفريق الخاص المتعاقد.
ولا يظنن أحد أن مجرد إصدار القانون ووضع المنظومة القانونية للتشاركية هذه، سيمكننا من بدء العمل به في اليوم التالي، فهناك حاجة للاستعداد له وإقامة المؤسسات اللازمة لتنفيذه، فهناك حاجة لتقوية قدرات الدولة الإدارية في هذا المجال "طرح عطاءات المشاريع بشكل عالي الاحترافية والشفافية والإشراف على تنفيذ العقود".
واستعداد القطاع الخاص للخوض في مثل هذه المشاريع الضخمة، وضمان عدم سيطرة الأقوياء والمتنفذين على هذه المشاريع. كذلك هناك حاجة لتطوير القطاع المصرفي المحلي ليستطيع التعاون مع القطاع الخاص المتعاقد في تمويل هذه المشاريع، بما فيه خلق سوق للسندات طويلة الأجل.
وأخيراً فإن مشاركة القطاع الخاص في المجال الإنتاجي والخدمي، كما في إعادة بناء وتطوير البنى التحتية بكافة جوانبها لم تعد قضية عقائدية في سورية، بل هي حاجة ملحة في مرحلة إعادة الإعمار وفي عملية التنمية خلالها وفيما بعدها، للتعويض عما خسرناه خلال الأزمة، وهي خسائر لا تقل عن انجازات عشر سنوات من التنمية، وللعودة إلى اللحاق بالركب الاقتصادي العالمي، وهو الركب الذي كنا مقصرين عنه بشكل كبير حتى قبل الأزمة.
المصدر: نقلا عن موقع "الاقتصادي"