في معزل عن التلّبد السياسي محليا واقليميا، يعمل مصرف لبنان لتسيير شؤون الدولة والاقتصاد والمستهلك. ولان ثمة تحديات كبيرة يترتب عليه الوقوف امامها السنة المقبلة، يعوّل على دفع قطاعات ناشئة نحو النمو والتطوّر بغية تعميم انتعاشها على قطاعات اخرى راكدة. لكن يبقى الاهم، في تغليب التفاؤل على مشاعر يسودها التشاؤم بفعل ما مرّ على لبنان من تطورات قلبت الجغرافيا وحوّرت في التاريخ. فما في سياسات المصرف المركزي في الـ2014؟
لا يعد المناخ السياسي والامني الذي يخيّم على الساح الداخلية، بما يمكن ان يعوّل عليه لانهاض الاقتصاد الوطني بعد نحو عامين على الاتجاه الانحداري الذي افقده مقومات النمو واضعف المكوّنات الى حد انعدام بعضها. ولا يبدو ان السنة المقبلة ستحمل انفراجات كبيرة تمكّن الاقتصاد من تجاوز ما يترتب عليه من استحقاقات، وخصوصا في ظل ثقل الفراغ الحكومي والتهديد اللذين يطاولان الاستحقاق الرئاسي.
اذا، هو الشلل الذي ينسحب من السياسة على الاقتصاد دون الامن، حيث التوترات المتنقلة تعوّق مناخ الاعمال والسياحة والاستثمار. وليس مستغربا ان تدفع تلك المشاهد باللبنانيين نحو مشاعر اليأس والتشاؤم "وهذا من شأنه ان ينعكس مباشرة على الاداء الاقتصادي، اذ تنعدم المبادرات وتتراجع خطوات الابداع والابتكار... ليدخل الاقتصاد في حلقة مقفلة، تدفع به الى مزيد من التراجع في تحقيق معدلات نمو جديدة"، وفق ما قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لـ"النهار" امس.
وهذا ما يستوجب إطلاق مبادرات تستهدف قلب المشاعر، وخصوصا بعدما بدأ المركزي تطبيق المبادرة التي اتخذها منتصف الـ2013 في شأن اقتصاد المعرفة، "ونأمل في ان تفضي الى خلق قطاع جديد، وتستطيع قطاعات اخرى الافادة منه... اي نسعى الى تحسين قطاعات تقليدية". وهذا ما ينطبق على نموذج قطاع الاتصالات (الهاتف) الذي لم يكن له اعتبار اقتصادي، "لكن مع القليل من التطبيقات الذكية من اقتصاد المعرفة، بات قطاعا يتداول نشاطه بمليارات الدولارات"، بحسب تعبيره.
ووفق سلامة، لن يكون الاتجاه في السنة الجديدة نحو ابتكار مبادرات تستهدف المؤسسات الناشئة فحسب، "بل كل ما يمكن ان يفيد قطاعات اخرى ما دام التمويل متوافرا". لذا، اعدّ مصرف لبنان رزمة تحفيزية بحجم 800 مليون دولار لمشاريع جديدة في قطاعات الاسكان والطاقة والبيئة والتعليم، وهي نسخة ثانية لمبادرة اولى اطلقها في الـ2013، واثبتت نجاعتها بدليل الاقبال القوي على القروض لتوفير الطاقة البديلة والبيئة، "وهذا مهم، ويوّفر قطاعا جديدا واعدا قدّر البنك الدولي حجمه بنحو 1 او 2% من الناتج المحلي الاجمالي"، مؤكدا المضي في الوقت عينه بالمرونة المسؤولة حيال القروض المدعومة وقروض "كفالات".
ولا تقف حدود مسؤولية المركزي عند اطلاق المبادرات الجديدة، بل تطول ايضا حماية المستهلك في تعامله المصرفي، "وقد طالب بانشاء وحدة متخصصة في لجنة الرقابة على المصارف، كونها على تماس مباشر مع القطاع وتتابع اداءه دوريا مما يعني انها قادرة على المتابعة عبر جهاز بشري كفي ومهني. والهدف، تطمين المستهلك ان تعامله مع المصرف خاضع لشفافية ولادارة حكيمة". كذلك، وضع المركزي على برنامج عمله مع المصارف انشاء لجان لدرس "المكافآت" في المصارف، "اي وضع معايير واضحة وشفافة على نحو يطمئن المساهمين في المصارف". ويبدو القطاع متجاوبا مع هذا الطلب وخصوصا بعدما تجاوز معدل الـ10% للملاءة، "لكن، نحاول مراجعة المعايير المطلوب تطبيقها من "بازل 3" على نحو لا تضغط على عمليات التسليف المصرفي في الـ2014، لان "بازل 3" طلبت زيادة الرساميل او خفض التسليفات. لذا، نحاول البقاء ضمن الضوابط من دون ان نعطّل عمليات التسليف".
يؤمن سلامة بان تلك المبادرات ستفضي الى توفير مناخ ملائم للاستهلاك والاستثمار "لان العدّة متكاملة"، وذلك بعيدا من المناخ السياسي الضاغط الذي لم يحل دون نجاح المركزي في ضبط التضخم عند حدود 3,5% لسنة 2013.