ومضى العام الثالث، من الأزمة، مُنهكاً قدرات اقتصادنا، مُدمِّراً العديد من عوامل قوته، في حين ولجنا السنة الرابعة من الأزمة، بمآسينا الإنسانية بالدرجة الأولى، إلى جانب خسائرنا الاقتصادية الهائلة.
إذ تعجز أي مؤسسة عن وضع تقديرات دقيقة لما دمرته الحرب في سورية، بنى تحتية، وفوقية أيضاً، ذهبت أدراج الرياح، مليارات لا تشكل الأصفار الموجودة إلى يمين أي رقم يمكن وضعه قيمة كبرى، فالخسائر الهائلة تجعل من التقديرات مسألة ثانوية.
ولم تعد هذه التقديرات تشكل عنصر مفاجأة لنا، ولا يمكن أن تثير لدينا الاستياء، فالحزن على ثلاث سنوات قاتلة، يشبه تماماً البكاء على أطلال اقتصاد، لم يبق منه سوى الآثار الدارسة. إلا أن الواقع بتعقيداته، ومآسيه المختلفة، يفضح المستور، ويكشف العيوب، وقد يكون من محاسن الأزمات أنها تكشف الأخطاء، وللأسف أننا عندما كنا نتحدث سابقاً عن الأخطاء المرتكبة بحق اقتصادنا، كان الرفض هو سيد الموقف، والتشكيك هو الرد، فأتت الأزمة كسيل جارف، أو كشمس ساطعة، لا يمكن حجبها بغربال، أو مواجهة ذلك السيل والتصدي له بهذا الغربال.
ولو عدنا للوراء عقوداً، وبحثنا في طرائق اختيار الأماكن لبناء وتأسيس المعامل والشركات العامة، لوجدنا حجم الكوارث الاقتصادية التي تم التأسيس لها، بسبب غياب الرؤية، وعدم الاكتراث بالمقترحات العلمية، والاستناد إلى حالات جوفاء من التجييش الشعبي، فارغة المضمون. فماذا يعني تأسيس معمل للكونسروة في محافظة منتجة للقمح؟ ولماذا يُرغم منتجو الشوندر السكري على قطع مسافات طويلة لتسليم محصولهم؟ وكذا هو الأمر بالنسبة للقطن؟ وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس بالنسبة للمطاحن التي يتركز جلّها في حلب وريف دمشق، بينما الإنتاج في المنطقة الشرقية، فيما قلة قليلة جداً من الشركات أسست في مكانها الصحيح، مستفيدة من دراسات الجدوى الاقتصادية.
يظهر ذلك، وكأن الأولويات لم تك واضحة، والأهداف لم تك محددة، وصناع القرار، التزموا لعبة المصالح، وانتهجوا معايير مثيرة للتساؤل، في الموافقة على المطالب الشعبية. حجم الأخطاء التي أظهرتها الأزمة هائل، ولا دلائل تؤكد أن كل مسؤولينا مقتنعون بها، أو لديهم الرغبة في معالجتها.
والأهم من كل ذلك تجسيد مقولة تحويل الأزمة إلى فرصة. فثمة تجربة سورية، تتعلق بالاعتماد على الذات، وأخرى تتعلق بالاكتفاء الذاتي، اللتين طبقتا في ثمانينيات القرن الماضي، وولدتا من رحم أزمة ذلك العقد، وتحدياته. والآن ما التجربة التي علمتنا إياها هذه الأزمة؟ قد يكون من المبكر طرح هذه الفكرة، إلا أن الوقت ليس في صالحنا، ولم يك يوماً معنا، فوصولنا المتأخر الدائم، نبرره بمقولتنا المزيفة بأنه أفضل من عدم الوصول نهائياً، ونمضي إلى حال سبيلنا، متجاهلين الأخطاء والأسباب التي أدت إلى هذا التأخر، لأننا لا نملك القدرة على مواجهة الأخطاء ومعالجة المشكلات بالشكل الأمثل. هذا ما يجعلنا نترك قضية الاستفادة من دروس هذه الأزمة اقتصادياً جانباً، بمعنى أننا لم نعالج المسببات، ولم نفكر في الاستفادة من دروس الأزمة، على الأقل لنجترح ما نحتاجه، ونستفيد من الخيبات التي أثقلت كاهلنا، لنبني ما يشفع لنا، ونضمن ألا نقع بالخيبات ذاتها مرة جديدة.
أزمتنا بمرارتها وقسوتها، لم تعلّمنا الكثير حتى الآن، بل اكتفى مسؤولون كثيرون بسرد حجم الخسائر المباشرة وغير المباشرة، في تعاط جاف مع الأزمة العميقة اقتصادياً بالدرجة الأولى. فيتحول سؤال كبير من قبيل: كيف يمكن أن نحول الأزمة لفرصة؟ إلى مجرد سؤال أبله، رغم أنه السؤال المنطقي المتأخر اليوم، الذي يقر الجميع بأهميته، دون أن تتوفر الأرضية المناسبة للتأسيس للمرحلة القادمة اقتصادياً، أو وضع المنهجية الملائمة لتلك المرحلة العتيدة. بصراحة أمام آلاف المنعكسات السلبية للأزمة، ثمة إيجابية واحدة لها، تتعلق بكشفها للعيوب، وتعريتها للأخطاء، وتقديمها كشف حساب كبيراً في هذا المجال، لايحبذ المسؤولون رؤيته.
المصدر: صحيفة النور