مفهوم "التيسير الكمي"
"التيسير الكمي quantitative easing" هو أداة من أدوات السياسة النقدية تستخدمها البنوك المركزية عندما تمر اقتصادات الدول بمرحلة من الكساد والركود، فتعمل البنوك المركزية جاهدة على خفض نسب الفائدة إلى معدلات متدنية لتشجع البنوك على إقراض الشركات لدفع عجلة الإنتاج والبدء في تحفيز الاقتصاد وتنشيطه من جديد.
ويقصد بكلمة “الكمي” عرض النقود والتيسيرات الكمية أي زيادة المال المعروض، ويهدف إلى طبع النقود وشراء مجموعة مختلفة ومتنوعة من الأوراق المالية لإغراق أسواق المال بالنقود وزيادة حجم السيولة.
حيث أن البنوك تفضل في حالات الركود عدم إقراض الأفراد والشركات نتيجة التخوف من المستقبل وتخوفها من مخاطر عدم السداد لكون الحالة الاقتصادية سيئة وقد تفشل الشركات في أعمالها مما يؤدي إلى عدم المقدرة على سداد القروض الممنوحة لهم، الأمر الذي يدفع هذه البنوك إلى الاستثمار في سندات الخزينة والسندات السيادية الحكومية المضمونة.
وفي هذه الحالة تجد الحكومات والبنوك المركزية نفسها مجبرةً للجوء إلى أدوات غير تقليدية بغية تحفيز النشاط الاقتصادي نظراً لكون الأدوات التقليدية مثل خفض معدل الفائدة لم يلعب الدور المطلوب ولم ينجح في تحفيز المصارف على الإقراض للشركات لدفع عملية النشاط الاقتصادي، لذا يتم إتباع سياسة عملية التيسير الكمي من خلال خلق وطبع النقود وطرحها في السوق وشراء محفظة واسعة من الأوراق المالية والأصول في المصارف (على سبيل المثال يتم شراء القروض المعدومة والقروض عالية المخاطر للمصارف العاملة في الاقتصاد) ويقوم المصرف المركزي بشراء سندات الخزانة الحكومية (التي قامت المصارف بالاستثمار بها) مما يؤدي إلى ارتفاع سعرها وبالتالي انخفض العائد منها، مما يجعل المصارف تدرك عدم جدوى الاستثمار بسندات الخزينة نظراً لانخفاض عوائدها الأمر الذي يجبرها على العودة لنشاطها الأساسي في إقراض الأفراد والشركات.
وبعد نجاح التيسير الكمي وتعافي الاقتصاد فإنه من المفترض على البنك المركزي أن يعيد بيع جميع الأصول التي اشتراها من قبل فيقوم بسحب الأموال التي ضخها ويتخلص منها بإخراجها من النظام المالي.
تطبيق سياسة "التيسير الكمي" في الاقتصاديات العالمية:
إن طباعة أوراق نقدية لدعم النمو الاقتصادي ومساعدة الحكومة على خفض ديونها ليست فكرة جديدة، ولم تستخدم المصارف المركزية هذه الأداة في الماضي، نظراً لأنها تحمل عواقب وخيمة على المدى الطويل .
1_ في العام 1700م واجهت فرنسا أزمة ديون كبيرة عندما بلغ حجم الدين 20 مرة أكبر من إيراداتها الضريبية، ولحل المشكلة من دون تخفيض الإنفاق، لجأت فرنسا إلى عرض النقود الورقية، وتحويل الديون إلى مبالغ يمكن سدادها بقطعة من الورق بدلاً من الذهب.
وإضافة لذلك ذهب حكام المصارف المركزية الفرنسية لأبعد من هذا في برامجهم للتيسير الكمي في تلك الفترة فبدلاً من مجرد طباعة النقود، التي سوف تقلل من قيمة العملات الذهبية التي شاع استخدامها وخلق التضخم، أصدرت فرنسا أسهم في الشركة ميسيسيبي، وهو مشروع سمح لكل شخص في البلاد من الاستفادة من استكشاف العالم الجديد، وقامت المصارف بمبادلة سندات دين الحكومة الفرنسية بالأسهم في الشركة الجديدة والتي اعتقد الجميع في وقتها أنها ستجعل كل الفرنسيين أثرياء، وهذا أسهم في ظهور فقاعة سوق الأسهم وتم تداول الأسهم بأسعار بعيدة عن أسعارها الواقعية، وبعد أربع سنوات، انفجرت فقاعة سوق الأسهم، ما أدخل فرنسا في دوامة أزمة اقتصادية لم تتمكن من الخروج منها من ما يقرب من قرن من الزمان .
2_ استخدام البنك المركزي الياباني هذا المفهوم الجديد في إطار مجابهة حالة الركود الإقتصادى الذي عاشه اليابان وحالة الركود الإقتصادى والإنكماش الذي بدأ منذ العام 2001 واستمر حتى 2006 بعد أن وصلت أسعار الفائدة إلى 0%، حيث لجأ البنك المركزي الياباني إلى بعض الخطط الاقتصادية البديلة لمواجهة الأزمة الاقتصادية، فالإنكماش الإقتصادى يؤدى إلى خفض معدلات إنفاق المستهلكين في الشراء وإمتناعهم عن الشراء إلا للسلع الهامة فقط، مما يؤدى إلى تخفيض الباعة لأسعار السلع بشكل دوري، ومن ثم بدأ البنك المركزي الياباني في اتخاذ بعض الإجراءات الاقتصادية وكان على رأسها إجراءات خاصة بالتيسير الكمي, ولكن فور البدء به أرتفع في السنة الأولى زوج الدولار أمام الين بحوالي 18.5% حيث شهد الين حالة من الضعف أمام الدولار الأمريكي، وانخفض مؤشر نيكى الياباني بنسبة 28% بين عامي 2002 و2004، ثم انخفض الدولار أمام الين بنسبة 22%، وبدأ مؤشر نيكى بالتعافي بحوالي 20 %، ليبدأ الاقتصاد الياباني في التعافي.
3_ قبل نحو خمس سنوات، قام مجلس الاحتياطي الفيدرالي باستخدام فكرة “التيسير الكمي” من خلال شراء سندات الرهن العقاري وسندات الخزانة بهدف زيادة المعروض من النقود من دون الحاجة إلى الاعتراف بأنه يطبع ببساطة النقود، وخلال السنوات الخمس الماضية استخدمت الولايات المتحدة سياسات مالية ونقدية توسعية تدرجت من تدخل البنك الاحتياطي الفيدرالي لإنقاذ النظام المصرفي إلى سياسات التيسير الكمي لخلق قوى محرضة للنمو وإعادة التوازن للاقتصاد الأمريكي، ولقد تمكنت الولايات المتحدة من تجاوز المرحلة الأسوأ من مراحل الأزمة الاقتصادية وتمكن الاقتصاد الأمريكي من تسجيل معدلات نمو في الناتج المحلي الإجمالي، وبالرغم من تلك الأخبار المتفائلة فإن أن استمرار البنك الاحتياطي الفيدرالي في سياسات التيسير الكمي قد يكون له آثار تضخمية ضارة مستقبلاً.
سياسة "التيسير الكمي" في الولايات المتحدة الأمريكية
تعتمد سياسة التيسير الكمي التي يتبعها البنك الاحتياطي الفيدرالي على طبع النقود وإصدار الشيكات الإلكترونية من دون حدود أو شروط مسبقة، ويبدو أن لهذه السياسة ما يبررها من وجهة نظر الاحتياطي الفيدرالي والذي يعتقد جازماً أن الحكومة الأمريكية لها قدرة كبيرة على طبع أي كمية من النقود أو الشيكات الإلكترونية التي تريدها من دون تكاليف، أي أن الحكومة الأمريكية تستطيع إصدار شيكات إلكترونية من دون أن يكون لديها رصيد حقيقي في البنوك الأمريكية، ويقوم الاحتياطي الفيدرالي بطبع نقود وإصدار شيكات إلكترونية شهرياً بما يعادل 87 مليار دولار أمريكي لتغطية مشترياته من سندات الخزانة والسندات العقارية لتنفيذ سياسة التيسير الكمي.
وعندما تقوم البنوك ببيع ما تملكه من سندات الحكومة الأمريكية إلى البنك الاحتياطي الفيدرالي يتم تسجيل هذه العمليات في حسابات تلك البنوك لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي في ناحية الخصوم وهي بالتالي تشكل مايطلق عليه احتياطيات البنوك مع البنك المركزي والذي سيقوم بإنفاقها كيفما يشاء بعد أن يكون قد طمأن البنوك الأمريكية بأنه سيحترم وسيحافظ على تلك الاحتياطيات وأنه لا داعي للقلق، وبهذا يكون البنك الاحتياطي الفيدرالي قد حصل على ثقة البنوك، وفي الوقت نفسه فإن الشركات الأمريكية والمواطن الأمريكي لديه ثقة بالبنوك الأمريكية. وبالتالي فإن مسألة الثقة امتدت لتشمل كامل النظام المالي الأمريكي، وقد بلغ حجم الائتمان في النظام المالي الأمريكي خلال العام 2013 نحو 54 تريليون دولار أمريكي وهو مبني بالكامل على الثقة في البنك الاحتياطي الفيدرالي من دون أن تكون هناك أرصدة كافية له مع البنوك.
كيف تستطيع الحكومة الأمريكية إصدار تلك الشيكات الإلكترونية من دون تكاليف؟
عندما يقوم الاحتياطي الفيدرالي بشراء السندات الحكومية من البنوك الأمريكية فإنه يقوم باقتطاع الفوائد على تلك المشتريات وتحويلها للحكومة، وبالتالي فإن الحكومة أصدرت السندات لكنها لم تكلفها شيئاً، بعبارة أخرى قام الاحتياطي الفيدرالي بطبع النقود ثم اشترى بتلك النقود المطبوعة السندات التي بحوزة البنوك ثم قام بتحويل قيمة الفوائد التي تحملها تلك السندات إلى الحكومة، وهكذا فالحكومة استدانت من خلال إصدار تلك السندات وبيعها للبنوك ثم استلمت تكلفة الدين من البنك الاحتياطي بعد أن قام الأخير بشراء ما أصدرته الحكومة من أدوات دين للمؤسسات المالية، وهذا يعني أن الحكومة الأمريكية ستقلص العجز لديها بالمبلغ نفسه، ويقوم حالياً البنك الاحتياطي الفيدرالي بشراء نحو تريليون دولار أمريكي سنوياً من السندات، وهذا يعني أنه يقوم بتمويل 80% من العجز من دون تكلفة.
الآثار الضارة للتيسير الكمي:
على الرغم من مفعول التيسير الكمي الإيجابي في المديين القصير والمتوسط إلا أن آثارها الضارة تتمثل من خلال الأثر الكبير في تداول العملات نظراً لأنه عند طبع النقود بكثرة سيؤدي ذلك مباشرة إلى ارتفاع معدلات التضخم في الدولة، وانخفاض قيمة العملة.