غياب الأرقام والمؤشرات الإحصائية عن بعض حيثيات اقتصادنا الوطني، يدفعنا إلى القول: إن الأخير يختلف عن الاقتصادات التي نقرأ عنها في النظريات الاقتصادية لكونه يغلب عليه الطابع العائلي التقليدي إلى حدّ ما، الذي لا يدخل في الحسابات الرسمية الدقيقة، ومهما حاولنا تقديره جزافاً فسيكون هناك هامش كبير من الخطأ، وهذا الخطأ قد يشخّص الحقائق بأكثر أو بأقل من واقعيتها، وبالتالي فإن أغلب أرقام الدخل القومي غير دقيقة، بسبب انتشار ظاهرة الإنتاج والاستهلاك الذاتي بشكل كبير، وازدياد نسبة التعاملات غير الرسمية، وذلك نتيجة غياب إحصاءات واضحة ودقيقة عن الورش الصناعية التي تعمل في الظل وتشكل ما نسبته –حسب بعض الخبراء- نحو 90% من المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وفي ظل هذه المعطيات فإن إدارة الاقتصاد تفرض عقبات كبيرة أمام صاحب القرار.
بلا هوية..!
لم يعُد يخفى على أحد الانتشار الكبير الذي شهدته ظاهرة الورش المتوارية في الأقبية والأزقة النائية، أو ما تسمّى بالعرف الاقتصادي (اقتصاد الظل)، والتي –دون أدنى شك– تضخّمت نسبتها خلال سنوات الأزمة مقارنة مع ما قبلها، نتيجة انحسار مكوّنات الاقتصاد المنظم وخروج كثير من منشآته وفعالياته الاقتصادية من الخدمة، بدليل أننا بتنا نشهد منتجات لسلع ومواد عديمة الهوية والمنشأ، غير ممهورة بعلامة تجارية مسجّلة، تغزو أسواقنا وتتربّع على رفوف وواجهات محالنا التجارية، ليس هذا فحسب بل بدأت تنافس ما تبقى من نظيراتها النظامية، لأسباب تتعلق بالدرجة الأولى بارتفاع أسعار الأخيرة، لأنه لا يترتب على الأولى أية التزامات قانونية ومالية.
ولا رقابة..!
ظاهرة تستوجب التوقف عندها مليّاً، لاعتبارات صحية وبيئة واقتصادية، فمنتجات هذه الورش تُصنّع بعيداً عن أدنى معايير الرقابة، وبدأت تلقى رواجاً شعبياً منقطع النظير، وإلا فسنكون أمام فوضى اقتصادية غير مسبوقة، مغرقة بالتجاوزات والمخالفات القانونية والصحية.
استراتيجية
في الوقت الذي يرى فيه بعض الناس أن اقتصاد الظل بدأ يشكل متنفساً حقيقياً لا يمكن إنكاره في ظل الارتفاع المريب للأسعار، بل يعتبرونه ركناً أساسياً من أركان الاقتصاد الوطني لكونه يتيح فرص عمل لشريحة لا بأس بها من المجتمع، إضافة إلى مساهمته بشكل أو بآخر في الناتج المحلي الإجمالي وفي الوقت نفسه يلبّي حاجات المستهلك بسعر يناسب ذوي الدخل المنخفض، يرى بعضهم الآخر أهمية أن يكون هناك توجّه حكومي لوضع استراتيجية وطنية تنظّم هذه الورش، بل إن بعضهم يجد أن الحل الأمثل يكمن في إحداث وزارة خاصة للمشروعات المتوسطة والصغيرة بهدف تنظيم اقتصاد الظل القائم بكليته على مثل هذا النوع من المشروعات، على اعتبار أن وجود كيان حكومي تنفيذي من هذا النوع –وخاصة في مرحلة الإعمار- سيسلط الضوء على المشروعات العاملة في الظلام ويعيدها إلى المسار الاقتصادي السليم، وبذلك تستعيد الدولة العوائد الضائعة عليها من هذا القطاع، وفي الوقت نفسه تراقب وتشرف على آلية سير عمله، ما يضمن بالنتيجة طرح مواد وسلع مطابقة للمواصفات، وإلا فستبقى هذه الورش بمنزلة (خاصرة رخوة) لاقتصادنا الوطني، وخللاً يهدّد باستنزاف المنظّم منه، سواءٌ من ناحية عدم التزام القائمين عليه بمواصفات ما ينتجونه من السلع والمواد الاستهلاكية وخاصة الغذائية منها، أم من ناحية تفويت الموارد على الخزينة العامة للدولة، إلى جانب أن تنظيم اقتصاد الظل يعطي مؤشراً يمكِّن من معرفة احتياجات السوق والمواطن والاقتصاد الوطني كله بحيث يتم توجيه هذا الجزء من النشاط الاقتصادي في الاتجاه الصحيح وبالتالي يضع الدولة بالصورة الصحيحة للنشاط الاقتصادي.
اقتصاد شريف
لاشك أن اقتصاد الظل في هذه المرحلة يحظى بصدارة غير مسبوقة، من جهة منافسته لمنتجات نظيره النظامي من ناحية ضخ منتجاته في الأسواق ومستوى تسويقها وقبولها لدى المستهلك، الذي لم يعُد يكترث بأدنى معايير التصنيع في زمن وجد فيه نفسه في سباق محموم مع الأسعار، فاهتمامه الرئيس انصبّ على السلع الأرخص حتى إن كانت لا تحمل بطاقة بيان توضح مواصفاتها ونوعية المواد الداخلة في تصنيعها، لذلك بات التعاطي مع اقتصاد الظل وتنظيمه أمراً لابد منه، فهو بالدرجة الأولى يسمّى في أغلب دول العالم “الاقتصاد الشريف” لكونه لا يمت بصلة إلى المتاجرة بالممنوعات كالمخدرات وما شابهها، كما أنه يلعب دوراً مهماً في تقليص نسبة البطالة وتأمين مستلزمات وحاجات أسر كثيرة، ويرفد بعض قطاعات الاقتصاد الوطني بالدرجة الثانية، ما يحتم على الجهات المعنية تبسيط إجراءات تنظيمه ووضع شروط تشجيعية تدفع القائمين عليه إلى المبادرة والإقبال على العمل برعاية وظل القانون، حتى لا يستغل بعض ضعاف النفوس عملهم بالخفاء ويتاجروا بمنتجات تتنافى مع صحة المواطن.