لن تغرر بنا الحكومة، في الأرقام المتعلقة بموازنة العام القادم، ولن نصدق أنها الموازنة الأضخم، على مدى السنوات الماضية، رغم أن المبلغ المرصود لها 1980 مليار ليرة هو الأعلى قياساً للموازنات السابقة، ولكنه الأقل في حال قياسه على سعر الصرف، ويشكل رقما متواضعاً جداً، بالنظر إلى الاحتياجات التنموية والمعيشية فضلاً عن فاتورة الدفاع المتصاعدة.
يعكس سعر الصرف التراجع الحاد في حجم موازنة العام القادم، إذ حددت الحكومة سعر الصرف بمبلغ 250 ليرة مقابل الدولار، مقارنة بـ 150 ليرة في موازنة العام الجاري، ما يدل على الاعتراف الضمني بالارتفاع المصاعد لهذا السعر، وفقدان الليرة لقيمتها بشكل متتابع، وفشل الإجراءات التي يتخذها "مصرف سورية المركزي" و"مجلس النقد والتسليف" لإيقاف التدهور في قيمة الليرة. كما أنه يعكس عدم الشفافية المتبعة رسمياً في تحديد سعر الصرف المنطقي والعادل.
ليس مهماً عقب خمس سنوات متتابعة من الحرب التساؤل كم هو سعر الصرف، إنما يتمثل الموضوع بحساسيته ودقته، في المحافظة على سعر صرف معقول، أيا كان هذا السعر، فبعد فقدان الليرة لـ 80% من قيمتها، لم يعد ثمة شيء مهم يتطلب الدفاع عن سعر صرف وهمي، وغير حقيقي.
في المقلب الثاني، ماذا يعني 1980 مليار ليرة بالنسبة لسعر صرف يتجاوز فيه الدولار الآن 325 ليرة؟
هذه مسألة في غاية الأهمية، وتعبر عن مدى المأزق الذي تغرق فيه الحكومة ولا تريد الاعتراف به، بل إنها تحاول المحافظة على موقف بات الدفاع عنه قضية خاسرة بامتياز. وببساطة شديدة، إذا احتسبنا مبلغ الموازنة قياساً إلى سعر الصرف المحدد رسمياً فيها، فهذا يعني أن موازنتا تساوي 7,92 مليارات دولار، بينما في موازنة العام الجاري البالغة 1554 مليار ليرة، تعادل على سعر الصرف المحدد رسمياً 10,36 مليارات دولار، على اعتبار أن سعر الصرف محدد بـ 150 ليرة. أما في حال ذهبنا إلى السيناريو الآخر، واعتمدنا سعر صرف السوق الرسمي وليس السوداء، فيكون مبلغ الموازنة 6,092 مليارات دولار.
تؤكد الأرقام بما لا يدع مجالاً للشك، أن موازنتنا العامة القادمة، هي كسابقتها، موازنة تقشفية بامتياز، وتعكس مدى الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها الحكومة، ولم تجد لها حلولاً بعد، وتعبر عن الفشل في إيجاد منافذ جديدة تخفف من التحديات التي تقف في وجه اقتصادنا الذي أنهكته الحرب، ودمرته، وهو بحاجة ماسة إلى البناء من جديد وفق رؤى جديدة مختلفة، تنطلق من اعتبارات وطنية، وبالاستناد إلى ما يجري في العالم من تطورات اقتصادية لا يمكن تجاهلها، فضلاً عن احتياجات هذا الاقتصاد الذي تزعم الحكومة أنها تحضّر لمرحلة إعادة إعماره، بينما تتجاهل عن سابق قصد، مواجهة الحرب الاقتصادية التي يتعرض لها، وكأنها بذلك تحرق المراحل وتقفز فوق التحديات دون معالجتها بشكل حقيقي.
في المقلب الآخر، لابد من التساؤل: ماذا تريد الحكومة من موازنتها؟ ما الخطط التي ستنفذها؟
تعتقد حكومة "وائل الحلقي" أنها حكومة حرب، وبالعرف الاقتصادي، هذه الحكومات غير معنية بالتنمية، ولا تقيم وزناً للمشاريع الاستثمارية، ومهمتها الرئيسة المحافظة على تقديم الخدمات الأساسية، والمستوى المعيشي المقبول، فهل هذه الموازنة تحقق هذه الاشتراطات؟
دون إسقاط التحديات التي تواجه الحكومة والاقتصاد الوطني، يسجل على حكومة الحلقي، فشلها بالمطلق في وقف التدهور بالحياة المعيشية، وعدم قدرتها على ردم الفجوة المتسعة بين الدخول والأسعار، وعدم جديتها في اتخاذ إجراءات توقف نزيف الموارد، وتعالج الفساد المعلن من قواه ومافياته الخطرة، وفشلها في ضبط الإنفاق الذي يتناسب مع مهام حكومة الحرب. إن الظروف الصعبة والقاسية التي تعيشها البلاد لا تبرر إطلاقاً كل هذا التراخي في الأداء الحكومي، وموازنتنا القادمة بأرقامها ومعطياتها العامة لا تبشّر بما هو أفضل.