صادرات لبنان باتت في منتصف دائرة الخطر، ما يتهدّد الاقتصاد الوطني بالشرّ المستطير، قد تكون هذه العبارة من أكثر العبارات المتداولة خلال الآونة الأخيرة على ألسن المصدّرين اللبنانيين، الزراعيين والصناعيين على السواء. بيد أنها لم تلق صدى، أكان ايجابياً أم سلبياً، لدى المسؤولين الحكوميين. حتى أن أياً من الأخيرين لم يكلّف خاطره بدعوة رئيس الحكومة إلى إدراج هذا البند على جدول أعمال الحكومة، التي باتت تجتمع من اجل رأب تصدعاتها فحسب، ولإثبات أنها ما زالت تمتلك قدرة سحرية على الاجتماع، لا أكثر. أو، وهنا يظهر ما هو أدهى وأمرّ، من أجل إقناع الأطراف المشكّلة لها، بالدرجة الأولى، والمناوئة لها ثانياً، بعدم السماح لمؤيديها باستخدام الشارع من أجل تعكير الصفو العام.
هكذا يتبدى للمواطنين أن البحث في الحلول الضرورية لتذليل المعوّقات التي تعترض طريق صادراتنا، البرية منها خصوصاً، إلى سوريا ودول الجوار، ليس من اختصاص حكومة الشلل العميم. وهو ما يعني أن "اللاتعايش" المقيم بين أطرافها منذ ولادتها، أفضى إلى انشقاقها على نفسها، وتالياً، إلى القفز فوق حاجات المجتمع المفترض أنها تخدمه. في هذا السياق أيضاً تندرج إخفاقاتها المتلاحقة في حفظ الاستقرار الأمني الهش، للمواطنين الأفراد وللقيادات السياسية على حد سواء.
ومن الأدلة الصارخة على الفشل الذي يطبع وجه الحكومة ما أظهرته الإحصاءات الصادرة عن أكثر من قطاع اقتصادي، لا سيما المتمحور نشاطه حول التصدير، من تراجع خلال النصف الأول من العام الحالي. يأتي ذلك من دون أن تجد الحكومة نفسها مضطرة إلى اتخاذ أي قرار جدّي لدرء الكارثة الزاحفة على اقتصاد البلاد ومعاش العباد. إذ يراوح التراجع المسجل ما بين 30 إلى 50 في المئة، مقارنة مع الفترة ذاتها من العام الماضي. ومردّ ذلك كلّه إلى تراجع التصدير براً عبر سوريا بنسب ملحوظة، إمّا بسبب المخاطر الأمنية التي تحف بالطرق البرية في الداخل السوري، أو نتيجة ارتفاع كلفة التأمين على الشاحنات إلى درجة تُفقِد البضائع اللبنانية قدرتها على المنافسة في الأسواق المجاورة. وهو ما قد يشجع المستوردين، وبالنتيجة التجار، على تعويض خسائرهم المحققة من جيوب الشرائح الأكثر استهلاكاً لسلعهم، وبالتحديد من ذوي الدخلين المتوسط والمحدود.
عام سيّئ للسمك واللحوم والخضار
"حتى السلع العادية كالأسماك واللحوم والخضار المجمدة تكاد تصير ممنوعة على اللبنانيين"، يقول أمين السر لـ«نقابة مصدّري ومستوردي اللحوم والأسماك والخضار المجلدة والمبردة» سميح المصري لـ«السفير». فالمصري، الذي جاوز عمره في المهنة الـ55 عاماً، يكاد يجزم بأنه لم يشهد عاماً سيئاً كالعام الجاري. إذ أسهم تدهور الوضع الأمني للمعابر البرية عبر سوريا إلى رفع كلفة التصدير بحوالي الضعفين. ومن أمثلة ذلك، وفق المصري، ارتفاع أجرة نقل طن اللحم من 150 دولاراً إلى 260، وطن السمك من 140 دولاراً إلى ما يقارب الـ260 دولاراً أيضاً. ويضيف المصري ان الأسعار ستبدأ بالارتفاع إذا لم تشرع الحكومة اللبنانية في اتخاذ قرارات عملية تصب في مصلحة المستوردين والمصدرين في آن. إذ «لقاء إنزال الحاويات من الباخرة إلى أرض مرفأ بيروت تتقاضى إدارة المرفأ ما قيمته 500 دولار. هذا فضلاً عن 50 دولاراً كلفة استهلاك كهرباء، و75 دولاراً أجرة بقاء الحاويات لمدد تتراوح ما بين 3 و7 أيام في المرفأ، في انتظار ظهور نتائج الفحوص المخبرية الإلزامية لدخول البضاعة إلى السوق اللبنانية. يضاف إلى ذلك 44 دولاراً رسم أرضية». هذه الأكلاف تقتضي، على ما يقول المصري، أن تقدم الجهات الحكومية المعنية تسهيلات للمستوردين والمصدرين حتى لا يضطروا إلى تعويض ارتفاع الكلفة من جيوب الناس.
وإذ يشدد المصري على ان حجم خسائر قطاع تصدير واستيراد اللحوم والأسماك والخضار المجلدة والمبردة كبير، لا يخفي التحوّل الملحوظ في النشاط التصديري من البر إلى البحر. فـ«80 في المئة من البضاعة المستوردة إلى لبنان كانت تخصص للتصدير إلى الأردن والعراق وبلدان الخليج عبر البر السوري. وقد بتنا اليوم نستورد بغرض الاستهلاك المحلي فحسب». وبرأيه «سجلت حركة الاستيراد والتصدير في النصف الأول من العام الجاري تراجعاً بما نسبته حوالي 50 في المئة قياساً إلى الفترة ذاتها من العام الماضي». ويكتسب هذا الرقم أهميته متى علمنا «ان القطاع يشغّل حوالي 15 ألف عامل»، الأمر الذي يقتضي «ان تبادر الحكومة ووزارتا الاقتصاد والزراعة إلى إعلان حالة طوارئ اقتصادية، والى إعطاء تسهيلات استثنائية، تساهم في استمرارية عمل تلك المؤسسات وديمومة قدرتها على دفع رواتب موظفيها».
الصناعات الغذائية: التنافسية عدم
ليس حال الصناعات الغذائية أقل سوءاً. فقد بلغت درجة تدهور صادرات القطاع خطاً أحمر مرده إلى ثلاثة أسباب، على ما يقول رئيس «نقابة أصحاب الصناعات الغذائية» جورج نصراوي. السبب الأول التدهور الأمني في سوريا. الثاني، الارتفاع المتزايد طرداً لكلف الكهرباء والمياه. والثالث، ما رتبته الزيادة الأخيرة في الأجور من أعباء إضافية على كاهل أصحاب المؤسسات.
هذه الأسباب كلها أدّت، برأي نصراوي، إلى ارتفاع أسعار البضائع اللبنانية المصدّرة، إلى درجة تفوق المستوى المسجل في بلدان المقصد، ما جعلها تفقد جزءاً كبيراً من قدرتها التنافسية. وترجمة ذلك ان «تراجعاً في حركة صادراتنا بدأ بالظهور بسبب فرق السعر. على ان الأرقام التفصيلية لهذا التراجع ستتبلور بصورة أدق غداة انتهاء شهر رمضان، وهي ستظهر مدى عمق التراجع المسجل».
فمع خروج الوضع في سوريا عن طوره «بات المصدرون يفزعون من التصدير برّاً، ما أدى إلى إطالة أمد عملية الشحن مع الانتقال من البر إلى البحر. فعبر البرّ تستغرق عملية الشحن ما بين خمسة أيام إلى أسبوع، بينما عبر البحر تستغرق الرحلة ما بين 25 يوماً إلى شهر». وثمة «سلع تمتاز بالقدرة على تحمل المسافات الطويلة، لكن هناك أيضاً سلع غير قادرة على تحمل المدد الطويلة كالمنتجات الزراعية. لذا نضطر أحياناً إلى اعتماد البر بهدف تصديرها. وهو ما يزيد كلفة التأمين عليها». وثمة، من جهة ثانية، مصانع عمدت إلى بيع منتجاتها بسعر الكلفة حتى لا تخسر أيضاً أكلاف إنتاجها. هذه الخسائر مرشحة للظهور في الميزانيات السنوية للمصانع لدى إقفالها آخر هذه السنة، يردف نصراوي.
كنقيب للصناعات الغذائية يتواصل نصراوي مع جميع المسؤولين. وجميعهم، على المستوى الشخصي، يبزون بعضهم البعض في ادعاء الحرص على القطاع. لكن، «عندما يحين وقت اتخاذ القرارات الضرورية لإنعاش النشاط الاقتصادي والصناعي يختفون جميعاً. فلا تدرج مشاكلنا على جدول أعمال الحكومة».
الاستيراد في أزمة
والحال أن مشكلات المستوردين ليست أقل ضرراً، للاقتصاد وللمستهلكين، من مشكلات المصدّرين. فبحسب المدير العام لـ«نقابة مستوردي المواد الغذائية والاستهلاكية والمشروبات» خالد الخطيب تنحصر عقبات الاستيراد في شقين، داخلي وخارجي. الداخلي مردّه إلى القرارات التي اتخذتها وزارة الزراعة والتي لم تترك وقتاً للسوق لاستيعابها، ما حدا بالمستوردين إلى الاستغناء عن استيراد بعض الأصناف (القرار 1034/1 حدّ من استيراد الزيت الداخل في المنتجات الحيوانية، ما أدّى إلى شبه منع للسلع التي تتضمنه. وبالنتيجة، تقلّصت البدائل الأرخص.
أمّا الشق الخارجي فيتصل بالوضع في سوريا وما يترتب عليه من تزايد في كلفة الاستيراد، بعدما باتت طريق البرّ شبه مقطوعة. وهو ما دفع المستوردين إلى تحويل ما نسبته 30 إلى 40 في المئة من إجمالي وارداتهم، كانت تمرّ قبلاً عبر سوريا، من البر إلى البحر. هذا التحويل، زاد برأي الخطيب، كلفة الاستيراد، وان تكن الدراسات الموثقة حول الكلفة والخسائر لا تزال في طور الإعداد.
على ان قياس الزيادة في الكلفة ممكن، وفق الخطيب، من خلال قياس الزيادة المسجلة في مؤشر أسعار السنة الأخيرة، التي تراوح ما بين 5 إلى 10 في المئة بحسب السلعة. كذلك، يزيد التأخير في المرافئ في انتظار تخليص البضائع وفحصها من كلفة الاستيراد، ما ينعكس ارتفاعاً، بطبيعة الحال، في أسعار السلع المطروحة في السوق المحلية.
المصدر : السفير اللبنانية