لم تستطع الحمضيات أن تنجو من مأساتها هذا الموسم أيضاً على ما يبدو، ومشكورة هي مؤسسة الخزن والتسويق (سابقاً) المُندمجة مؤخراً مع العناصر المكوّنة للصهير الجديد الذي سيرسم الشكل النهائي للمؤسسة السورية للتجارة،
فقد تحمّلت المخاطر، وزادت لمزارعي الحمضيات عشر ليراتٍ على كل كيلو غرام، لتشتري الكيلو منهم بستين ليرة بدلاً من خمسين - حسب السعر الوسطي للسوق- أي أنّ كيلو البرتقال ارتقى سعره ليلامس باقة النعنع التي يتراوح سعرها بين 70 و 75 ليرةـ، أو قرن موز واحد .. غير آبهٍ بأسعار الأسواق العالمية التي يصل بها سعر كيلو البرتقال وسطياً - والذي هو كبرتقالاتنا، وبالجملة - إلى دولار وأربعين سنتاً، أي نحو 720 ليرة..!
فعلى الرغم من أنَّ الحكومة أبدت اهتماماً بالغاً بتسويق حمضيات هذا الموسم، وتفاءلنا بأنّ هذا الاهتمام سيُفضي إلى انتهاء هذه الأزمة المزمنة، إلا أن التسويق الداخلي والخارجي حتى الآن لا تتعدّى نسبته أكثر من 40 إلى 50% من حجم الموسم - حسب آخر تقديرات مكتب الحمضيات - أي أنّ هناك لا يزال نصف مليون طن غير مسوقة، بعضها ما زال صامداً على الشجر ينتظر، والبعض الآخر ملَّ الانتظار فهوى متساقط على الأرض ..
مصدر للدخل والأرباح
في الحقيقة من المؤسف جداً ما يحصل لهذا المنتج كل عام، فهو وعلى الرغم من الاجتماعات المتعاقبة، والقرارات المتّخذة، والتي بدت للوهلة الأولى وكأنها ستغدو قراراتٍ من شأنها إنقاذ هذا الموسم، وإنهاء حالة الإحباط التي تُصيب فلاحيه ومزارعيه، وحالة الحزن التي تُخيّم على بياراته التي تنزف برتقالها إلى العدم والخسائر، بدلاً من أن تكون غذاء للناس، ومصدراً للدخل والأرباح على الرغم من حزمة القرارات الهامة بشأن دفع عملية تسويق الحمضيات من تشكيل مجموعات عمل دائمة فرعية في مراكز التوضيب مهمتها مراقبة عمليات الفرز والتوضيب والتغليف للحمضيات المعدة للتصدير، ومعاملة مراكز التوضيب بتعرفة مبيع الكهرباء وفق التعرفة الزراعية بدلاً من التعرفة الصناعية أو التجارية، وإعفاء صادرات الحمضيات من جميع العمولات والرسوم التي تتقاضاها شركة التوكيلات الملاحية، والإعفاء من الرسوم والعمولات التي تتقاضاها غرفة الملاحة البحرية، وتخفيض رسوم بدلات المناولة في كل من مرفأي طرطوس واللاذقية ورسوم الموانئ وأجور الحاويات في المرافئ بنسبة 50%، بالإضافة إلى منح قرض لاتحاد المصدرين بقيمة 250 مليون ليرة لتمويل شراء الحمضيات من الفلاحين بغرض التصدير على أن يتم تسديده خلال تسعة أشهر، وتكليف اتحاد المصدرين بتشكيل لجنة دائمة للتواصل الدولي بهدف تذليل عقبات التصدير وتخصيص مليار ليرة سورية لدعم نقل الحمضيات من مناطق الإنتاج إلى مناطق الاستهلاك في مختلف المحافظات لتخفيض أسعار الحمضيات على المستهلك، وإعفاء مواد التشميع المستوردة من الرسوم المترتبة عليها وتوجيه مؤسسة الخزن والتسويق لإحداث معمل للعبوات اللازمة لتعبئة المنتج.
يضاف إلى ذلك تكليف وزارة الزراعة بدراسة تكاليف إنتاج الكيلو غرام الواحد من الحمضيات منعاً لوقوع أي التباس على مزارعي الحمضيات، وإعفاء صادرات الحمضيات من تعهد إعادة قطع التصدير.
هذه الإجراءات كلها على أهميتها لم تفد شيئاً من حيث النتيجة، لأن المسألة ليست بهذه السهولة..!
موسم وفير
أمام صعوبات التسويق الحاصلة في الداخل والخارج بدت هذه الإجراءات وكأنها لم تحصل فعلاً، حيث لم تترك بصمة واضحة على الموسم الوفير الذي تجاوز المليون طن، فمؤسسة الخزن والتسويق لم تستطع النفاذ إلى أسواق داخلية نشيطة بشكل حقيقي إلا أسواق دمشق، ورغم وصولها إلى أسواق بعض المحافظات الأخرى كحمص وحماة إلاّ أنها بسبب الوضع الأمني لم تستطع التوسع في تلك المحافظات، وبالعموم لم يستطع فرع مؤسسة الخزن في اللاذقية أن يسوّق أكثر من عشرة آلاف وسبعة وأربعين طناً، حسب آخر البيانات، واتحاد المصدرين السوري صدّر - حسب مصادره حتى الآن - أربعين ألف طن، وتقول تلك المصادر إن هناك باخرة ستُبحر إلى روسيا في الأول من شباط القادم محملة من خمسين إلى مئة كونتينر، أي من 1250 إلى 2500 طن، ويرى اتحاد المصدرين أن الدخول إلى الأسواق الخارجية صعب جداً، بسبب العقوبات الاقتصادية وصعوبات تحويل الأموال.
وطبعاً هناك صادرات أخرى، وتسويق داخلي آخر عبر أسواق الهال والبيع المباشر، غير أن كل ما تمّ تسويقه لا يتجاوز 50% من المحصول، فتلك الجهود كلها لم تستطع امتصاص الإنتاج الضخم.
الأداء ضعيف
داخلياً لا بد من انتظار الانفراج الأمني للتمكّن من الوصول إلى مختلف الأسواق، غير أن مدير مكتب الحمضيات سهيل حمدان يرى الأداء ضعيفاً، والمشكلة أكبر مما نتصوّر، وبالنسبة للتسويق الخارجي أوضح أن هناك مشكلة في مراكز التصدير والتوضيب أيضاً، ففي اللاذقية يوجد خمسون مركز فرز وتوضيب غير صحيحة، وغير مجهّزة فنياً، فالفرز والتوضيب كان من المفروض أن يخضع للفرز الضوئي، أو اللوني، وذلك من خلال تمرير الإنتاج أمام كاميرات مخصصة لهذه الغاية، ولكن هذه الكاميرات مع الأسف غير موجودة، وهي كانت كفيلة بضمان حُسْنِ اختيار الكميات المناسبة والمقبولة في الأسواق الخارجية .
حركة تصدير ضعيفة
حمدان حثَّ على ضرورة تركيب مثل هذه الكاميرات غير المُكلفة كثيراً بالنسبة للمردود الكبير الذي يمكن أن تُحدثه، ففي اللاذقية خمسون مركزاً، يكفينا أن نجهّز منها عشرة بتلك الكاميرات بكلفة لا تتعدى 30 إلى 40 مليون ليرة للمركز الواحد، وعندها يمكننا القول: إنّ سورية سيصبح بإمكانها اختراق الأسواق العالمية، فلدى سورية بالفعل مُنتَج ضخم بمواصفاته الرائعة، يحتاج فقط إلى اللمسات الأخيرة، وسورية لديها القدرة الإنتاجية لأن تُصدّر يومياً ألف براد، وحسب الأسعار العالمية بإمكانها أن تجني يومياً خمسة مليارات ليرة، لأن كل براد يمكن أن يسوّق بخمسة ملايين ليرة، ولكن مع الأسف بقيت حركة التصدير ضعيفة لعدم توافر عملية الفرز اللوني، فلا يوجد عمليات تصدير حقيقية، هناك تهريب.
ويضيف حمدان: البلد يخسر، وتصدير 20% من إنتاجنا فقط يعني 200 مليون دولار على الأقل، أي أكثر من 100 مليار ليرة، فلو صدّرنا 20% من الإنتاج ووزعنا ما تبقى مجاناً لكسبنا خمسين مليار ليرة عمّا نجنيه اليوم، لأن سعر المليون طن بالأسعار الحالية في السوق السورية لا تتعدى 50 مليار ليرة ..! فالبلد يخسر الكثير، وعلينا أن نكون جادين أكثر في العثور على حل.
تخفف العبء عن الفلاحين
رئيس اتحاد الفلاحين في اللاذقية هيثم أحمد يرى أنّ المؤسسات الحكومية كالخزن والتسويق استطاعت أن تخفف العبء عن الفلاحين قليلاً ولكنها بالنهاية غير قادرة على استيعاب كامل المحصول الذي بلغ 855 ألف طن بالنسبة لمحافظة اللاذقية هذا العام، وتمنى على الحكومة في تصريحات متعددة أن تتخذ قراراً جريئاً باعتبار محصول الحمضيات محصولاً استراتيجياً أسوة ببقية المحاصيل الإستراتيجية الأخرى كالقمح والقطن، لاسيما وأن الحمضيات تشكل مصدر رزق لعشرات آلاف الأسر السورية في المنطقة الساحلية.
إقامة مصنع العصائر
ولكن حمدان لا يؤيد فكرة اعتبار الحمضيات محصولاً استراتيجياً، ويقول: لا داعي لأن تلتزم الدولة بشراء هذا المحصول وهو هكذا لا يُسوّق، على القطاع الخاص أن يدخل بالعملية بقوة، وعلى اتحاد المصدرين أن يبذل جهوداً أكبر، فلا يُعقل أن يكون البرتقال الماوردي يباع بدولار ونصف للكيلو غرام في الأسواق الخارجية، بينما عندنا لا يُقام من أرضه .. ! وليس صحيحاً أنَّ موسمنا لا توجد فيه حمضيات تصديرية ولا عصيرية، فما الذي عندنا إذاً ؟.
ويتفق رئيس اتحاد فلاحي اللاذقية مع رئيس مكتب الحمضيات، حول أهمية إقامة مصنع العصائر الذي بدأت إجراءات إقامته، والذي سيستوعب نحو 20% من المحصول.
قذف الكرة
في واقع الأمر لا يزال موسم الحمضيات وكأنه يتيمٌ حتى الآن، فالكل يقذف الكرة من ملعبه، ولذلك لابد من كيان ما، يقبل هذه الكرات، تكون وظيفته قيادة العملية التسويقية، في الداخل تسويقاً وصناعةً، وفي الخارج، وهنا لا بد من اجتماعٍ أو مؤتمر يشمل الجميع، جميع المعنيين وجميع قاذفي الكرات، ويجري التباحث بعمق، والخروج بتشكيل قيادة حقيقية للعملية التسويقية، تحظى بكل الصلاحيات والوسائل الممكنة، ومهما تكن مكلفة فالخسائر التي نتكبدها اليوم، أو لنقل فوات الأرباح هي أضخم بكثير، فوجود مثل هذه القيادة يضمن تصدير بما لا يقل عن خمسة مليارات ليرة يومياً، ليتنا نعي هذه المسألة ونأخذها على محمل الجد ونبدأ من جديد، فلعلّ الحلّ هنا يكمن.
صحيفة "الثورة"