على مدار السنوات الست الماضية، كان جل اهتمام السوريين، ممن كانوا لا يزالون يحتفظون ببعض المدخرات، يكمن في المحافظة على ما يمتلكونه من سيولة نقدية وتجنب تداعيات انخفاض سعر صرف الليرة وتراجع قوتها الشرائية، فكان عملهم في هذا الإطار يتجه نحو واحد من ثلاثة خيارات، إما تحويل ما يمتلكونه من سيولة نقدية بالليرة إلى دولار، أو شراء قطع ذهبية للادخار وتحديداً الأونصة والسبائك، وثالث الخيارات كان التوجه نحو شراء العقارات والأراضي المنظمة في المحافظات الآمنة.
وعلى ذلك يمكن القول إن مدخرات السوريين من القطع الأجنبي، وتحديداً من الدولار الأمريكي، ارتفعت بشكل ملحوظ خلال سنوات الأزمة، سواء من صغار المدخرين أو من أصحاب الفعاليات الاقتصادية والأعمال، لدرجة أن بعض الموظفين كانوا يحولون رواتبهم مع بداية الشهر إلى دولار، ثم يعاودون تصريفها تدريجياً إلى الليرة تبعاً لإنفاقهم.
هذه المدخرات تثير تساؤلات عدة تتعلق بحجمها، مصيرها حالياً، سبل الاستفادة منها في تحسين سعر صرف الليرة، ولاحقاً في إعادة الإعمار.
لكن للأسف ليس هناك أي معلومات رسمية أو غير رسمية ترصد وضع هذه المدخرات وحركتها رغم كل الأهمية التي تشكلها.
حسب الدكتور علي كنعان الأستاذ في قسم المصارف بكلية الاقتصاد بجامعة دمشق، فإن التقديرات تشير إلى أن مدخرات السوريين من القطع الأجنبي تساوي ضعفي احتياطي الدولة من العملات الأجنبية، فإذا كان احتياطي الدولة قبل الأزمة يصل لنحو 23 مليار دولار، فهذا يعني أن القطع الأجنبي الموجود بأيدي السوريين يصل لنحو 46 مليار دولار قبل الأزمة.
وفي تصريح خاص يضيف الدكتور كنعان: بعد نشوب الأزمة حدثت متغيرات كثيرة رفعت من حجم مدخرات السوريين بالقطع الأجنبي في الوقت الذي شهد احتياطي البلاد الرسمي من القطع الأجنبي تراجعاً تتباين التقديرات حوله.
ويشير كنعان إلى أن تقديراته تقول بارتفاع مدخرات السوريين من الدولار إلى أكثر من 75 مليار دولار، وذلك لعدة أسباب منها أن جزءاً من الاحتياطي الرسمي للبلاد والذي جرى التدخل به في سوق القطع وجد طريقه إلى أشخاص كثر، كذلك الأمر بالنسبة لتمويل المستوردات، هذا إضافة إلى عمليات البيع التي تمت للأصول والممتلكات والمصانع وتحويل ثمنها إلى دولار، وكذلك الإيرادات والأرباح لشركات وأشخاص والتي كان، وما يزال، يجري تحويلها-أو القسم الأكبر منها إلى دولار.
بغض النظر عن الرقم السابق ومدى قربه من الواقع، إلا أن يوميات ست سنوات من تذبذب سعر صرف الليرة والإجراءات القاصرة والمشبوهة للمصرف المركزي، من لعبة المزادات إلى التدخل الإيجابي في السوق، فالتدخل في سوق بيروت، جعل من سعر صرف الدولار يمثل هاجساً لحظياً للسوريين جميعاً، ودافعاً لمن يملك مدخرات بالليرة السورية إلى استبدالها بالدولار، وهذا أمر اعترف به مسؤولو الحكومة السابقة بحدوثه في أحيان كثيرة، محاولين تبرير سعر صرف الليرة.
وللأسف فإن هذه الكتلة بقيت خارج الاستثمار نتيجة غياب القنوات الاستثمارية الموثقة والمطمئنة للسوريين، ليكون الخيار إما وضعها في خزنات المنازل، أو تهريبها لخارج البلاد لوضعها في المصارف بغية الاطمئنان عليها، كما تم في بداية الأزمة واستمر لاحقاً حتى تشدد الدول في السماح للسوريين بفتح حسابات مصرفية على أراضيها.
في ضوء هذه التقديرات، ثمة تساؤلات عن الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الحكومة للاستفادة من هذه المدخرات وضخها في الاقتصاد الوطني، ولاسيما أن هذه المدخرات هي خارج القنوات المصرفية، وربما جزء منها يستثمر أو يودع في مصارف خارجية.
يؤكد هنا الدكتور كنعان أن اقتراحه، الذي طرحه سابقاً، والمتعلق بضرورة قيام الحكومة اقتراح سندات خزينة بالقطع الأجنبي، يمكنه أن يؤمن للدولة مليار دولار على الأقل، تستثمر في زيادة العملية الإنتاجية.
ولاحقاً يمكن العمل على استثمار جزء اخر من هذه المدخرات في تمويل جزء كبير من عملية إعادة الاعمار، وتاليا الاستغناء عن الحاجة لقروض خارجية أو مشروعات شراكة أجنبية طالما أن التمويل متوفر وطنيً.
المقترح الأخر، الذي يمكن إضافته لمقترح الدكتور كنعان، هو أن تعمل الحكومة على تشجيع أصحاب المدخرات الدولارية على إيداعها في المصارف الحكومية أو الخاصة، وهذا لا يمكن أن يتحقق إذا لم تكن هناك ضمانات حقيقية تتعلق أساسا بإمكانية المودع سحب إيداعاته بالدولار في أي لحظة يشاء، فالخوف من صدور تعليمات أو قرارات تمنع المودع من سحب إيداعاته بالدولار إلا بعد تصريفها بالسعر الرسمي يعوق أي توجه من هذا القبيل، ونعتقد أن توفر الضمانات اللازمة سيجعل كثيرين يقبلون على الإيداع بالدولار، لأن ذلك يشعرهم بالأمان أكثر على مدخراتهم وحمايتها من السرقة والمصادرة تحت أي ذريعة.
مثل هذا الملف يحتاج إلى عناية حكومية خاصة لاستثماره وتحويله من مجرد أموال مجمدة، خائفة، معرضة للتهريب، إلى ثروة إنتاجية تدفع بسعرً الليرة التحسن، ويؤمن تمويلاً وطنياً لمشروعات إعادة الإعمار تعود بالنفع على السوريين جميعاً.
صحيفة الأيام السورية