كما غيّرت الحرب حياة السوريين فقلبتها رأساً على عقب،عرّجت في طريقها على "ما بعد الحياة"، فأصبح موتهم معضلةّ أخرى عليهم مواجهتها، ليكتشفوا أن مقولة "اللي بيموت بيرتاح" لم تعد صالحة للتداول هذه الأيام.
ومن نتائج الحرب المستمرة في عامها السابع أن ارتفع عدد الوفيات بشكل غير مسبوق لأسباب لم تعد خافية على أحد، ارتفاعٌ زادت معه الحاجة إلى مراقد لجثامين المتوفين، ما دفع الأسعار في "سوق الموت" ومستلزماته إلى القفز بشكل مضاعف في المدن عامةً ، وفي دمشق بشكل خاص، فارتفعت أسعار القبور فيها بشكل جنوني وقف أمامها أهل العاصمة "بلا حول ولا قوة".
عرض قليل والطلب كبير
كأي سلعة أخرى، بات للموت سوقاً تفرض قوانينها على الدمشقيين، سوق تعاني قلةًّ في العرض مقابل ازدياد في الطلب.
فزيادة أعداد المتوفين يقابلها عدد مقابر غير كافٍ في دمشق، ومحدودية لمساحاتها واكتظاظها بالقبور.
ضاقت 33 مقبرة داخل دمشق بـ"الوافدين" الجدد إليها، وفشلت في استيعاب المزيد،مافتح الباب واسعاً أمام تجارة من نوعِ خاص يمكن تسميتها "بزنس الموت".
وفي وقت شهدت فيه سوريا خلال سبعة أعوام ارتفاعاً ملحوظًاً بعدد الضحايا نتيجة الحرب، زادت أيضاً نسبة الوفيات الطبيعية لتصل إلى 70% من مجمل الوفيات في البلاد، بحسب تصريح رئيس الهيئة العامة للطب الشرعي، حسين نوفل.
وأوضح نوفل أن السبب هو الضغوط التي يتعرض لها المواطن بسبب الأوضاع الراهنة في البلاد، وخسارة عدد كبير من المواطنين لأحبائهم ومنازلهم وعقاراتهم وأموالهم، ما أدى إلى نشوء عوامل الجلطات القلبية والدماغية.
ورغم غياب الإحصائية الرسمية عن متوسط عدد الوفيات في العاصمة دمشق،إلا أن مصدر في مكتب دفن الموتى أبلغنا أن عدد الوفيات في دمشق يبلغ وسطياً 25 وفاة يومياً.
هذا الارتفاع الملحوظ بأعداد الموتى في دمشق يقابله عدم توفر عدد مناسب من القبور الفارغة، رغم تجاوز عدد مقابر العاصمة 33 مقبرة تحوي ما يزيد عن 100 ألف قبر في كامل المدينة، ما شكل تحدياً كبيراً للمواطنين، في إمكانية تأمين قبر.
بين القرارات والواقع .. مليون وأكثر!
بحسب السعر الحكومي في مكاتب دفن الموتى، فإن أفضل القبور يجب ألا يتجاوز سعره 20 ألف ليرة، حيث نص القرار رقم 43/م الصادر عن مجلس محافظة دمشق سنة 1971على أن "سعر القبر العادي 5000 ليرة، أما القبر الموزاييك فتكلفته نحو 10 آلاف ليرة، وقبر الحجر يصل نحو 14 ألف ليرة، وقبر الرخام نحو 16 ألف ليرة" .
واقع الحال يشي بأرقام مختلفة حدّ الجنون، حيث يتراوح ثمن القبر في مقبرة "باب صغير" على سبيل المثال ما بين 700 ألف ومليون ونصف المليون ليرة، أما في مقبرة المسيحيين بباب شرقي، فتكلفة القبر مليون و200 ألف ليرة، وسعر الدرج في المدفن يتراوح بين 200 ألف و250 ألف.
"السوق السوداء تقاسم المواطن حتى على قبره الذي سيضمه بعد موته" حسبما يقول عادل، الذي يسكن منطقة القنوات، والذي توفي والده منذ قرابة الشهر، مشيراً إلى أن وفاة والده كلفت العائلة حوالي مليون و200 ألف ليرة، حيث قام وأخوته بشراء قبر من عائلة كانت تمتلكه في مقبرة باب الصغير ب900 ألف ليرة، إضافة إلى تكاليف طباعة وتوزيع النعوة وبقية تكاليف العزاء.
من جهته، يقول أبو شادي، حفار قبور وحارس مقبرة الدحداح وسط دمشق "منذ زمن طويل لم يتم بيع قبر في المقبرة ومعظم القبور الموجودة ملك لعائلات محددة، مخصصة لدفن أبنائهم وأقاربهم، وفي بعض الأحيان تقوم هذه العائلات ببيع تلك القبور لأشخاص لا يملكون قبراً في المقبرة ولكنهم يطلبون أرقاماً كبيرة من أجل ذلك"، ويضيف أبو شادي أن من يريد أن يدفن متوفاه يجب عليه أن يحضر ورقة من المحافظ ليحصل على قبر أو يذهب إلى مقبرة "نجها" حيث تتوفر القبور بأسعار أرخص من العاصمة.
لكن الجديد هو استغلال البعض، من أهالي أحد المُستضافين في قبر، وجود أصحابه خارج القطر، ليقوموا بنقل ملكيته لإسمهم عبر تزوير أوراق الملكية، كما يؤكد أهالي علموا بعد سفرهم أن قبر العائلة قد تمت سرقته .
اللاحقون فوق السابقين :
أكثر من ميت في قبر واحد، هي آلية في عملية دفن الموتى يعتمدها أهالي دمشق، تنسحب على كل مقابرها الواقعة ضمن الحيز الجغرافي للمدينة، إذ تعتمد هذه المقابر في الدفن، ومنذ زمن بعيد، على وضع أكثر من ميت في نفس القبر لعدم قدرة المقابر على استيعاب قبور جديدة، فيُدفن اللاحقون فوق السابقين وفق شروط صارمة ومستندات وأوراق ثبوتية وموافقات تثبت صلة المتوفى الجديد بالسابق، على أن يكون قد مر على الوفية أكثر من 5 سنوات .
البعض لجأ إلى تأجير القبر لدفن جثمان أحد أقربائه، من غير الفروع، بـ 100 ألف ليرة سورية سنوياً إلى حين دفن شخص آخر فوق جثمان المتوفى.
عضو المكتب التنفيذي في محافظة دمشق فيصل سرور، أكد أن القانون يمنع بشكل كامل بيع القبور، لكن المواطنين يبيعونها بين بعضهم خارج إطار المحكمة، ثم يقومون بالتنازل عن القبر، بحجة أنه تنازل دون مبلغ مادي، لكن في الواقع يكونوا قد اتفقوا مسبقاً على عملية البيع والسعر خارج إطار المحكمة".
وأضاف سرور "إن المواطنين يتوجهون إلى المحافظة، ومعهم حكم قضائي بالقبر، لذلك لا تستطيع المحافظة التدخل، ومنع عملية نقل القبر، بسبب وجود هذا الحكم"، مضيفاً أن معالجة هذه الظاهرة تتم عبر تعميم يرسل من وزير العدل إلى المحاكم، برفض منح المواطنين حكم قضائي لملكية القبور.
قبور مجانية للفقراء .. في نجها وبشرط!
أمام هذه المعضلة التي تلاحق الدمشقيين بعد موت أقربائهم وأحبائهم، حاولت محافظة دمشق اجتراح حلول لمن لا يملك إمكانية تحمل هذا العبء الثقيل، حيث أوضح مدير مكتب الدفن بدمشق محمد حمامية، أن ثمة قبور برسوم رمزية، تتبع لصندوق مقابر المسلمين، وبإمكان أي مواطن التقدم إليها.
وقال مدير مكتب دفن الموتى إن بلدية دمشق حددت رسوم دفن الوفية مع وجود القبر بحوالي 35 ألف ليرة سورية، وفي حال عدم وجود قبر يتم تخصيص الوفية بقبر في مقبرة "نجها" بتكلفة تتراوح من 60 إلى 70 ألف ليرة.
وأضاف حمامية إن المحافظة مستعدة لتأمين قبر "مجاني" للأشخاص غير القادرين على دفع تكاليف القبر، شرط أن يقدموا "إثبات فقر"، مشيراً إلى إن المكتب يعمل على تأمين قبور للمواطنين الفقراء في مقبرة "نجها" بريف دمشق، دون تخصيصها لهم، وذلك في حال إحضار ورقة من المختار تثبت فقرهم.
وتتسع مقبرة "نجها" لقرابة 42 ألف قبر، أقل من ثلاثة آلاف منها فارغة، بحسب إحصائيات مكتب دفن الموتى .
وتبعد البلدة التابعة لريف دمشق 13 كيلومتراً عن دمشق، ومن هنا فإن معظم أهالي دمشق لا يرغبون بدفن موتاهم في "نجها" بسبب بعدها عن مركز المدينة، ما يصعّب عليهم زيارة قبور موتاهم باستمرار، بالإضافة إلى عادات مجتمعية دأبت عليها عائلات دمشق الأصلية، وتوصي بأن يُدفن الميت في إحدى مقابر دمشق الأساسية.
صحيفة الأيام السورية