منذ عام 1999، لبنان هو الأضعف عربياً في خلق الوظائف مقارنة مع معدّل النمو الاقتصادي الذي يُسجّله (مروان بو حيدر)
المشكلة لا تتعلّق فقط بالأجور وحدّها الأدنى، بل بمدى قدرة الاقتصاد على خلق الوظائف. في كلتا الحالتين يُسجّل فشل لبناني، على الأقلّ لدى المقارنة مع الجوار العربي. المفرح المبكي هو أنّ الباحثين الشباب يرصدون النمط، فيما تتجاهله الصالونات السياسية
في هذه البلاد يبدو أنّ الأغرار غير المسيّسين يعرفون أكثر في الشأن العام، وخصوصاً في ميدان الاقتصاد. يظهر هذا الأمر جلياً في موضوع الأجور وتصحيحها باعتباره مدخلاً لتصحيح مؤسساتي شامل. ففي مؤتمر نظّمته الجمعية الاقتصادية اللبنانية (LEA) أخيراً، عُرضت أوراق علمية لمجموعة من الباحثين الشباب. لا شكّ في أن بعضهم متأثر سياسياً، ولكن هناك نقاط بيضاء كثيرة تدلّ على توجّه صحيح مع بعض ثغر المراهقة البحثية.
إحدى الأوراق ركّزت على كيفية زيادة الإنتاجية في الاقتصاد اللبناني وخلق الوظائف عبر إصلاح يقوم على استغلال نقاط القوة التي تتمتع بها البلاد. من بين المسائل التي أثارها معدّو الدراسة الشباب قضية الحد الأدنى للأجور. فهم شدّدوا على أهمية زيادة هذا السقف لما لها من انعكاسات إيجابية على قوّة العمل، وبالأخص الشريحة الهشة منها. وواجهوا الحجة القائلة بسلبيات رفع هذا الحدّ عبر المنطق العلمي واستعراض بعض النماذج. ففي الولايات المتّحدة مثلاً، عمدت ولاية نيو جيرسي عام 1992 إلى زيادة الحد الأدنى للأجور، فيما أبقت جارتها الغربية بينسيلفانيا على هذا الحد ثابتاً. النتيجة كانت، وفقاً لدراسة أنماط التوظيف في مجال «مطاعم الوجباب السريعة» في الولايتين (كارد وكروغر، 1992)، أنّ معدّل التشغيل ارتفع في الولاية الأولى مقارنة بالثانية من دون أي آثار سلبية على هذا الصعيد.
متأثرين بلوبي أصحاب العمل، لا يلتفت ساسة لبنان إلى هذه المعطيات؛ بل على العكس تماماً يواجهونها إلى درجة الحرب، كما حصل مع مشروع وزير العمل المستقيل شربل نحاس. ولكن الصرخة تتعالى عالمياً في وجه آلة خنق الأجور وتصفيتها اسمياً.
فبحسب التقرير العالمي للأجور (2012/2013) الذي أصدرته منظمة العمل الدولية أمس، ينبغي أن يأخذ الحدّ الأدنى للأجور في الاعتبار «حاجات العمّال وأسرهم إلى جانب العوامل الاقتصادية، بما فيها مستويات الإنتاجية ومتطلّبات التنمية الاقتصادية والحاجة إلى المحافظة على مستوى عالٍ من الاستخدام».
ولكن فيما تعمد بعض البلدان إلى تعزيز الحد الأدنى كوسيلة لحماية الأفراد الأكثر هشاشة _ مثل البرازيل التي استمرت برفع الحدّ رغم الأزمة المالية والاقتصادية العالمية _ عمدت بلدان أخرى إلى خفض هذا الحد. فاليونان مثلاً خفضت هذا الحد بنسبة كبيرة بلغت 22% لاحترام الشروط التي فرضتها الجهات الدائنة الدولية.
ولبنان أيضاً كان من البلدان التي مارست كبحاً هيكلياً على الأجور طوال أكثر من عقد. وحتّى عندما جرى رفعه أخيراً، تمّ ذلك على نحو مشوّه.
ولكن الأمور لا تتعلّق فقط بالحد الأدنى. بل بهيكلية الأجور ونشاط التوظيف وخلق الوظائف عموماً. فخلال العقد الماضي بقيت الأجور ثابتة في منطقة الشرق الأوسط بسبب تراجع الإنتاجية وضعف المؤسسات، يُعلّق معدّو التقرير مع التأكيد على «محدودية البيانات الخاصة بالأجور» في هذه المنطقة.
وأكثر من ذلك، هبطت الأجور الحقيقية في هذه المنطقة بنسبة 2.9% عام 2008، بنسبة 1.5% في 2009، وبنسبة 1.1% و0.2% خلال العامين الماضيين على التوالي.
وإن كان تراجع قيمة الأجور سمة تسري على جميع بلدان المنطقة، فهناك تفاوت حاد لناحية خلق الوظائف. فبين عامي 1999 و2007، كان لبنان الأضعف بين البلدان العربية التي يشملها التقرير في خلق الوظائف مقارنة مع معدّل النمو الاقتصادي الذي سجّله. ولم تكتف البلاد بتلك المرحلة، بل تكرّر هذا النمط السلبي خلال فترة 2008 _ 2011 (راجع الرسم البياني الملحق)؛ حينها نما الاقتصاد اللبناني بنسبة تفوق 5.5% غير أنّ نمو التوظيف لم يتجاوز 1.6%!
وهو ما أشار إليه الاقتصاديون _ المصرفيون بينهم _ في أحاديثهم لـ«الأخبار» من خلال التشديد على مستوى ضعيف لتسحيل الموظفين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مقارنة بمعدّلات النمو الطيبة التي سجلتها البلاد خلال الفورة.
اليوم هناك أزمة اقتصادية حقيقية. خلال فترة العامين الماضيين تدهورت المؤشرات في البلاد على نحو واضح عاكسة أثر الاضطرابات الإقليمية وسوء الإدارة. العديد من المؤسسات عمدت إلى ترتيب مساحتها المالية للتأقلم مع تراجع الأشغال _ من الفندقية وصولاً إلى الإعلام _ بعضها خفض الأجور والبعض الآخر سرّح الموظفين. ولكن علينا دائماً الاستذكار أن مشكلة البلاد هيكلية ولا تتعلّق فقط بأزمة ناتجة من موسم سياحي بالكاد تدفّق خلاله مليون سائح حقيقي.