قبل عام واحد فقط، بدا لبنان يدقّ باب ثورة تحصين الأجور وإعادة الاعتبار إلى حقوق العمّال، بعد قضمها خلال 17 عاماً. اليوم ينحدر إلى أسوأ مما كان عليه قبل «تأثير نحاس»: الأجور لن تُصحّح، وحتّى البيانات التي يُعتمد عليها لتصحيحها لن تُعدّ
أنهكت أسعار السلع والخدمات المستهلكين في لبنان خلال عام 2012. في الشهر الأخير منه، بلغ معدّل التضخّم 10.1%. رغم ذلك، لم تصدر أي لفتة من لجنة المؤشر المسؤولة عن بحث سياسة الأجور وتصحيحها، ولا أيّ «صرخة» عماليّة من الاتحاد العام العتيد المكلف شؤون العمال.
الحركة النقابية الوحيدة التي نلحظها حالياً هي هيئة التنسيق النقابيّة التي تصارع لتحويل سلسلة الرتب والرواتب المقرة من مجلس الوزراء إلى البرلمان، لإجراء تصحيح هيكلي للأجور في القطاع العام لم يحصل منذ عام 1996.
هذا الوضع ليس مستغرباً لمجموعة من القرارات الصادرة مباشرة عن رئاسة مجلس الوزراء ولتغاضي وزارة العمل والاتحاد العمالي العام.
ووفقاً للمعلومات المتوافرة لصحيفة " الأخبار اللبنانية "، لن تُصدر إدارة الإحصاء المركزي مؤشّر أسعار الاستهلاك في لبنان لشهر كانون الثاني الماضي؛ لأنّها لم تحصل على موافقة من رئاسة مجلس الوزراء، التي تتبع لها مباشرة، لإجراء المسح الاعتيادي الذي يشمل السلع والخدمات المختلفة التي تُشكّل سلّة الاستهلاك الأساسيّة، ويُنفّذه فريق ميداني من الإدارة.
يأتي هذا القرار المستغرب جدّاً في ظلّ إسقاط دور لجنة المؤشر المسؤولة عن صوغ الخطوط العريضة لسياسة الأجور ورفعها إلى مجلس الوزراء. فآخر اجتماع عقدته هذه اللجنة كان في الخريف الماضي، ويبدو أنّ جلّ ما جرى التداول خلاله هو الأوضاع العامّة، الأزمة الداخلية وارتباطاتها الإقليميّة على فنجان قهوة تركيّة!
هذا الحديث ليس من باب التهكّم؛ فأن يُسجّل معدّل التضخّم مستوى قياسياً العام الماضي من دون أي تصحيح للأجور، ويُستتبع ذلك باتباع سياسة ممنهجة – كما أضحى واضحاً – لإسقاط واجب مراقبة الأسعار وتصحيح الأجور وفقاً لتحركها هي فضيحة حقيقيّة.
بوضوح أكثر، الخطورة في قرار رئاسة مجلس الوزراء هي أنها تؤسس لمرحلة ضبابية يجري تمييع ملف تصحيح الأجور فيها على اعتبار أنّ مؤشرات غلاء المعيشة غير موجودة، فكيف تُصحّح الأجور؟!
يحدث هذا في ظلّ «حوار» يجري بين رئاسة مجلس الوزراء والهيئات الاقتصادية (أصحاب العمل) يهدف، بحسب النقابيين الفاعلين، إلى إسقاط ما بقي من تقديمات اجتماعيّة وتحصين للعمال في هذه الدولة.
وفيما يُطبخ ذلك الحوار من دون أيّ اعتبارات لأوضاع العمال (هيئة التنسيق النقابية غير ممثلة فيه والاتحاد العمالي العام أظهر في الاستحقاقات السابقة أنه يميل إجمالاً إلى الضفة المقابلة!) يبدو أن المرحلة المقبلة ستكون أسوأ مما كانت عليه البلاد قبل التصحيح الأخير للأجور الذي خاض فيه وزير العمل السابق شربل نحاس معركة كسر عضم مع النظام أدّت إلى استقالاته للاعتبارات السياسية المعروفة.
وفي هذا السياق، يُشار إلى أنّ رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن زار الرئيس نجيب ميقاتي أمس، ربما لرشّ بعض البهارات التي لا طعم لها ولا لون على ما يُطبخ في السرايا التي ستشهد دورياً حتّى نهاية الشهر الجاري لقاءات تُركّز على مطالب أصحاب العمل تمهيداً لخطّة ستكون على رأسها أهمية الحفاظ على الأمن عبر قمع التحركات المطلبية!
يتأمّن هذا الوضع في ظلّ بيئة حاضنة لإسقاط حقوق العمال من المعادلة، وما أقرّه مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة من «قوننة» منحة التعليم المدرسية وسلخها من صلب الراتب لتشويهه، كما حصل ويحصل مع بدل النقل، هو جزء من تلك الممارسة.
على أي حال، في سوق طبيعية شفافة يُمكن إلى حدّ ما ابتلاع معدل تضخم محمول. لكن لنأخذ مثالاً العام الماضي. خلاله ارتفعت أسعار المواد الغذائية – التي تُشكّل الثقل الأكبر في مؤشر أسعار المستهلك – بنسبة 4.2%، وفي كانون الأوّل وحده ارتفعت مقارنة بالشهر السباق، وذلك رغم تراجع أسعار الغذاء عالمياً لثلاثة أشهر متتالية وفقاً لمؤشّر منظّمة الغذاء والزراعة (FAO) التابعة للأمم المتّحدة.
أما سعر المسكن – الذي يُشكّل 16.2% من ثقل المؤشر – فقد تضخّم بنسبة تفوق 44%، نتيجة زيادة الطلب في مجال استئجار الشقق والمنازل.
ومن منظور أوسع، ارتفعت أسعار المواد الغذائية في لبنان بنسبة 38% منذ بداية عام 2008، وارتفعت أسعار المسكن بنسبة هائلة بلغت 60.2% خلال تلك الفترة.
كلّ ذلك يستفيد منه التجّار – في قطاعي التجزئة والعقارات – والسياسيون المرتبطون مباشرة بأصحاب العمل، وعدم مواكبته بتصحيح وتحصين هيكلي للأجور يعني إمعاناً في رفض صياغة عقد جديد مع شعب هذا البلد.
تلك السياسة هي تحديداً ما أشارت إليه منظمة العمل الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقريرهما الأخير «نظرة جديدة إلى النموّ الاقتصادي: نحو مجتمعات عربية شاملة ومنتجة». قال إنّ «العجز الأكبر في المنطقة يكمن في مجالي الحماية الاجتماعية والحوار الاجتماعي».
تلك الحماية تتلاشى تدريجاً في لبنان، في إطار مسيرة مرعية مباشرة من رأس الحكم. في المقابل، يبدو التعويل فقط على هيئة التنسيق النقابية التي يُنتظر إضرابها المفتوح في 19 شباط الحالي، على أحرّ من الجمر.