ينجز الحديث مع د. نبيل سكر قسطاً كافياً من الثراء يتكئ أوله على إرثه الطويل من محطاتٍ بدأت قبل العام 1970 حين حصل على شهادة الدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية، ويرتاح آخره في المكتب الاستشاري السوري للتنمية والاستثمار بدمشق. أحد عشر عاماً كان قد أمضاها لدى البنك الدولي في واشنطن حتى عام 1981 أولاً كمحللٍ اقتصادي مختص بدول غربي إفريقيا ثم كمسؤولِ تمويلٍ لمصارف التنمية في دول جنوب آسيا، وأخيراً كاقتصادي رئيسي للمشاريع في قسم الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا. لاحقاً عمل د. نبيل سكر مدة سنتين في لندن مع مؤسسة مصرفية استثمارية ثم في السعودية مدة أربع سنوات كمستشار استثمار لمجموعة اقتصادية، وفي العام 1987 عاد إلى سورية حيث أعدَّ خلال الفترة الممتدة مابين عامي 1987و1990 دراسةً من ستة أجزاء حول الاقتصاد السوري ومتطلبات انتقاله إلى اقتصاد السوق وتطوير قطاعاته الاقتصادية المختلفة تم تقديمها إلى القيادة السياسية آنذاك، وفي العام 1991 أسس “المكتب الاستشاري السوري للتنمية والاستثمار” بدمشق، واختص المكتب بالدراسات الاقتصادية الكلية والدراسات القطاعية ودراسات الجدوى الاقتصادية للمشاريع، وتقديم المشورة الإدارية والمالية وإعادة هيكلة المؤسسات إضافةً إلى نشاط التدريب والتأهيل. أيضاً شغل في السابق عضوية مجلس إدارة كل من المؤسسة المالية العربية في بيروت وبنك الشرق في دمشق، وهو الآن عضو في مجلس إدارة بنك بيمو السعودي الفرنسي بدمشق.
ملاحظات على نهج اقتصاد السوق
لم تغتل الأزمة الحالية كل ما تأسس سابقاً من تحوّلٍ اقتصادي بصرف النظر عن نتائجه المباشرة والملموسة على الأرض. كذلك يرى د.نبيل سكر أن الاقتصاد السوري أصبح اليوم اقتصادَ سوقٍ من حيث الجوهر، والقطاع الخاص أصبح يولد حوالي 67% من الناتج المحلي الإجمالي، ويساهم بحوالي 55% من الاستثمار ويوظف نحو 70% من العمالة، ويضيف: “هذا التحوّل ساهم في رفع معدلات النمو لتصل إلى 5% سنوياً قبل الأزمة. كما خلق مناعةً في مواجهة تبعات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية منذ أربع سنوات ومناعةً في مواجهة الأزمة المحلية الحالية وكذلك العقوبات الاقتصادية المفروضة علينا من الخارج وخاصةً على قطاعنا العام. ولولا القطاع الخاص لكان أثر كل من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة وأثر الأزمة الحالية على اقتصادنا أكبر بكثير، وفي المحصلة فإن نهج اقتصاد السوق لا يمكن العودة عنه وإن كنا لم ننتقل إليه بالكامل بعد، وإن كان لي بعض الملاحظات على عملية التحول حيث لم نفعّل القطاع الخاص الإنتاجي بما فيه الكفاية وأقول الإنتاجي وليس الريعي، وغالينا في تحرير التجارة على حساب تعزيز الإنتاج، وبدأنا بتفكيك شبكات الحماية الاجتماعية القديمة مثل الدعم والتوظيف وتثبيت الأسعار قبل إقامة شبكات الحماية الجديدة المترافقة مع اقتصاد السوق مثل برامج تعويض البطالة والتأمين الصحي للمواطنين”.
تحدي ما بعد الأزمة
ينظر د. نبيل سكر إلى المؤشرات الاقتصادية للأزمة على أنها سالبة الدلالة، ويوضح: “لا شك أنها ضربت الاقتصاد السوري في الصميم وهي ضربات لن تشلّه لكنها ستضعفه على مدى سنواتٍ عديدةٍ قادمة. فمن عناصر القوة في الاقتصاد السوري تنوع مصادر دخله وتدني مديونيته الخارجية وحيازته حين بدأت الأزمة على احتياطي كبير من القطع الأجنبي، وبالمقابل هناك عناصر ضعف ومنها الجمود في القطاعات الإنتاجية الأساسية وضعف قطاعنا الإداري، ووقوع الأزمة قبل استكمال عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق وإقامة وتفعيل مؤسساته، والتحدي الكبير الذي سيكون أمام الحكومة بعد الأزمة هو كيفية إعادة تحريك الاقتصاد وإعادة التوازن إلى الإطار الاقتصادي الكلي في الوقت الذي ستتعامل فيه مع إعادة الإعمار وقضايا الإغاثة وتثبيت الأمن واستيعاب المهجرين والتعويض عن الأضرار، وإعانة الفقراء، القدامى والجدد وغير ذلك”.
سياسة مالية ونقدية غير مستقلة بالكامل
يعتقد د.نبيل سكر أن المسؤولين عن السياسات المالية والنقدية عملوا جهدهم بكفاءة في مواجهة الأزمة بكافة أبعادها. ثم يقول: “علينا ألا ننسى حداثتنا في اقتصاد السوق وبأدواته المالية والنقدية حتى في الظروف العادية فكيف إذا كان اقتصاد السوق في خضم أزمة كالتي نمر بها، وثانياً أن القيّمين المباشرين على السياسات المالية والنقدية لا يتمتعون بالاستقلالية الكاملة في اتخاذ القرارات التي يرونها مناسبة بسبب نظامنا الذي لا يزال يتيح تدخل جهات وصائية وغير وصائية في القرار. هذا فضلاً عن تدخل وضغوطات أصحاب المصالح، وهذان العاملان يفسران بعض التخبط الذي شهدناه في السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، ومن جهة أخرى لا شك أن الاحتياطي الكبير من العملات الأجنبية الذي توفر لنا في بداية الأزمة والبالغ 18 مليار دولار، وعدم وجود التزامات كبيرة علينا لتسديد ديون خارجية مكّن المصرف المركزي من التدخل في السوق ومن تمويل المستوردات السلعية الرئيسية”.
المطلوب من إدارات المصارف ومجالس إداراتها
يقول د. نبيل سكر: “تحمل المصارف مسؤولية تجاه الاقتصاد الوطني، وتتحمل إدارتها التنفيذية ومجالس إدارتها مسؤولية تجاه مالكيها وتجاه مودعيها، ولا شك أن الأزمة السياسية والاقتصادية من جهة والعقوبات الاقتصادية الخارجية من جهة أخرى عظّمت مخاطر البلد السيادية وزادت من المخاطر الائتمانية ومخاطر السوق والمخاطر التشغيلية التي تشغل عادةً إدارات المصارف التنفيذية ومجالس إدارتها، وأكثر ما يقلق المصارف اليوم هو تراجع التسليف وتدني جودة محافظها الائتمانية بسبب عدم قدرة الزبائن على السداد مقابل ندرة الضمانات العينية، وصعوبات التحويل والتعامل مع المصارف الخارجية، وعدم استقرار سعر الصرف وهجرة الخبرات المصرفية وهي الخبرات التي تم تدريبها وتطويرها على مدى السنوات السابقة، والمصارف تعمل ما بوسعها للتأقلم مع الأزمة من خلال ترشيد التسليف وإعادة جدولة القروض المتعثرة كما وتعمل على سد الثغرات التي وجدتها آليات عملها وفي هياكلها التنظيمية استعداداً للانطلاق من جديد والمساهمة في إعادة إحياء الاقتصاد الوطني وإعادة الإعمار بعد الأزمة وقد يضطر بعضها لتدعيم رأسماله”.
غياب الاستراتيجيات عن العمل الحكومي
لم تتبنَّ حكومات الأزمة إستراتيجيةً واضحة تمكّنها من التعامل مع المعادلات الاقتصادية الجديدة للأزمة وهذا يعزوه د. سكر إلى استمرار عدم وضوح النهج الاقتصادي من جهة، وعدم القدرة على التنبؤ بطول الأزمة وبأبعادها من جهة أخرى، ويشرح: “هذا جعل وضع أي إستراتيجية مسبقة أمراً صعباً إضافةً إلى أن متطلبات الأزمة الأمنية والاجتماعية وضعت اعتبارات الأمن ومتطلبات الإغاثة فوق اعتبارات الاقتصاد في اتخاذ أي قرارات. لذلك وجدنا مثلاً زيادةً كبيرة في الإنفاق الإداري على حساب الإنفاق الاستثماري في إنفاق الدولة، ووجدنا عودة الإجراءات الحمائية في بعض الأحيان مثل بعض القيود على الاستيراد وعلى التصدير، وفي هذا ما يبرره ما دامت إجراءاتٍ مؤقتة”.
تأخر الإصلاح السياسي والاقتصادي
من أسباب الأزمة التأخر في الإصلاح السياسي والاقتصادي، لذا يقول د. نبيل سكر وفقاً لمجلة " المصارف والتأمين ": “لو قمنا بالإصلاح في أزمة منتصف الثمانينات لكنا الآن في وضع اقتصادي أفضل، ولوجدنا في النظام السياسي المعدّل آليات لتصحيح الأخطاء في وقت مبكر، ولكنا أكثر مناعة في مواجهة الصدمات الداخلية والخارجية. أما عن كيفية تهيئة البيئة السياسية والاقتصادية التي من شأنها تحقيق معدلات نمو أعلى فالمعادلة قد تغيرت والتحديات كبرت وأصبحت أكثر صعوبة وعلينا الآن واستنتاجاً من الأحداث الأخيرة التعامل مع قضية العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة بين الريف والمدينة بنفس القدر من أهمية التعامل مع رفع معدلات النمو. كما علينا التعامل مع قضيتي النمو والعدالة طويلتي الأجل بنفس الوقت الذي نتعامل فيه مع تحديات ما بعد الأزمة، وهذه بدورها يمكن قسمتها إلى مجموعتين الأولى تحديات تثبيت الأمن والاستقرار واستيعاب المهجرين وإعادة الإعمار وإغاثة الفقراء والتعويض عن الأضرار، والثانية تضم تحديات إعادة بناء مؤسسات الدولة وتفعيلها والنهوض بالاقتصاد الوطني من جديد وتوفير فرص العمالة وإعادة التوازن للإطار الاقتصادي الكلي، وفي خضم كل هذه المتطلبات هناك حاجة لوضع أولويات وتحديد السياسات اللازمة للتعامل مع هذه الأولويات وتوفير الأموال اللازمة لها، وواقع الأمر أننا سنحتاج إلى الاقتراض الخارجي بعد الأزمة مما يضيف تحدياً آخراً يتضمن حسن إدارة هذا الاقتراض والتأكد من إخضاعه لأولوياتنا وليس لأولويات المانحين”.
المصدر: مجلة المصارف والتأمين