تعمل "وزارة العمل" اليوم وبالتنسيق مع جهات حكومية عدة لتعديل قانون العاملين الأساسي رقم /50/ لعام 2004 للوصول إلى قانون جديد يتناسب مع الواقع والظروف الحالية.
لقد أثبتت جميع التعديلات التشريعية لهذا القانون عدم جدواها في حل مشكلة الكفاية المعيشية لرواتب العاملين في الدولة فقد استنفذت هذه التعديلات وسائلها وأغراضها وتوجب الاتجاه إلى اعتماد أسس مالية بحتة في حل هذه المشكلة التي لا يمكن حلها إلا عن طريق إعادة القيمة الشرائية لليرة السورية كما كانت قبل عام 1971.
وحتى نخطو في هذا الاتجاه يجب إعادة النظر أولاً في القوانين المالية الأساسية للدولة على أسس مالية بحتة ومن منظور مالي صحيح وسليم تفرضه هذه المرحلة الحاسمة في تاريخ هذا البلد الصامد ومن ثم الالتفات إلى تعديل قانون العاملين في الدولة على أسس مالية سليمة .
فقانون العاملين في الدولة من أكثر القوانين اشكالية وتعقيداً في تاريخ التشريع السوري، فهناك آلاف الصفحات من الشروحات وشروحات الشروحات والتفاسير وتفاسير التفاسير نتيجة التعديلات غير الممنهجة والتي لم تتوصل إلى حل معضلته الأساسية وهي ( معضلة انهيار الكفاية المعيشية لرواتب العاملين ) بل أخذت تدور في حلقة مفرغة وفي تقديري أنه لا سبيل للخروج من هذه المتاهة التشريعية إلا في الاتجاه بإصلاح هذا القانون واعتماد حل الإصلاح المالي للعملة السورية الذي سيؤدي ليس إلى إصلاح قانون العاملين وحده فقط بل إلى إصلاح جميع مشاكل الاقتصاد السوري أيضاً.
وللتعرف على جذور هذه المشكلة المالية لابد أن نعود بالذاكرة المالية إلى عام 1971 حيث سنسلط الضوء على نموذج عشوائي نختاره من بين موظفي الدولة آنذاك وسنطلق عليه اسم ( س . ع لعام 1971 ) وهو مهندس تخرج أواخر عام 1970 وعين بأول راتب له في بداية عام 1971 بمبلغ إجمالي مع التعويضات مقداره /500/ ل . س كانت قوتها الشرائية تكفي لإعالة عائلة متوسطة العدد بشكل جيد وكريم بدون إسراف أو تبذير مع وفر قدره /300/ ل . س شهرياً وباعتبار أن ( س . ع 1971 ) مازال يعيش في كنف أبيه الذي امتنع عن أخذ أي مساعدة من راتب ابنه لاكتفائه مادياً بل شجعه على توفير راتبه بكامله لتأمين حياته المستقبلية وحيث أن قيمة منزل متواضع في ذلك العام كانت بحدود /5000/ ل.س فقد كان بإمكان هذا الشاب أن يشتري منزله المستقل خلال أول سنة من تخرجه واستلامه لعمله كما كان بإمكانه في السنة التي تليها أن يتزوج ويتمتع بحياة عائلية مستقرة مطمئناً إلى غده وإلى مستقبل أبنائه بضمانة راتبه الذي يكفي لإعالة أسرته العتيدة بل ولإعالة عائلته الأساسية ( أمه وأبيه وإخوته ) إذا تطلب الأمر لسبب ما لاحقا كوفاة والده أو إصابة أحد أفراد الأسرة بمرض عضال يتطلب نفقات باهظة ….إلخ
وحتى لا يتبادر إلى الذهن أن نموذج المهندس المذكور ( وهو النموذج الوسطي لتلك الفترة وقد اعتمدناه لإجراء المقارنات المالية لاحقاً ) هو نموذج مثالي أو نادر الوجود فإن عملية استقصاء الشرائح الاجتماعية السورية المختلفة لتلك الفترة فقد كان يتوافر لها جميعاً مهما كان مصدر دخلها بشكل أو بأخر كفاية معيشية كريمة مع وفر كبير يتيح لها التخطيط بكل بساطة وتلقائية لمشاريع فردية مستقبلية ( شراء منزل , زواج , سفر وسياحة , متجر صغير , محترف متواضع , إلخ … )
والذي يهمنا الآن هو أن العامل في الدولة مهما كانت رتبته الوظيفية ومن أسفل السلم الوظيفي إلى قمته كان فيه وضع معاشي ومعيشي جيد جداً وكريم بل ومحسود من باقي فئات المجتمع بشكل أو بآخر لأن الوظيفة تؤمن له استقراراً لدخله مهما كانت الظروف والأحوال فهو يتقاضى راتباً مضموناً من قبل الدولة طوال حياته الوظيفية ثم بعد انتهائها فراتبه التقاعدي ينتظره حتى آخر حياته وإلى آخر بلوغ لسن الرشد لآخر فرد قاصر في عائلته أو وفاة آخر أنثى بلا عائل من بناته .
ومن البديهي أن هذه أن هذه النعمة المعاشية الباذخة التي كان يتقلب في أعطافها الموظف السوري تجعل من الفساد والرشوة والإهمال والتسيب وباقي الأمراض الإدارية أمراً سيئاً ومستبعداً من قبل العاملين في الدولة ولا تحمل هذه الأمراض لهم أي ملامح إغراء للوقوع فيها أو الاضطرار إليها بل على العكس فقد كان الجهاز الإداري للدولة محصناً ضد جميع هذه العلل والأمراض التي احتاجت لاحقاً إلى عشرات التشريعات للإحاطة بمفاعيلها الضارة دون جدوى فالقانون عاجز عن ردع الفساد إذا لم تسانده الأعراف والأخلاق والقناعات العامة للمجتمع المكتفي معاشياً .
ونصل الآن إلى النقطة الجوهرية في موضوعنا وهي السؤال عن سر هذه الكفاية المعاشية التي كان يتمتع بها موظف الدولة آنذاك لنجد أن السر يكمن في القيمة الشرائية الكبيرة لليرة السورية مقابل الذهب والدولار الذهبي القديم ( الدولار الأمريكي ما قبل عام 1971 ) والمدعوم بالذهب وفق معاهدة بروتن دودكز فقد كانت هذه الاتفاقية تربط الدولار بالذهب وتلزم الحكومة الأمريكية بإعطاء حامل الدولار أونصة ذهبية مقابل كل /32/ دولار الأمر الذي أعطى العملة السورية وجميع عملات العالم استقراراً رائعاً في القيمة الشرائية الكبيرة لهذه العملات جميعاً فكانت الكفاية المعيشية في السنوات السابقة لعام 1971 تعم جميع موظفي الدولة في جميع أنحاء العالم وليس في سورية وحدها فقط.
كما قد يخطر ببال بعض الناس، أن هذا الموضع المعيشي الكريم هو السائد عالمياً منذ إبرام المعاهدة المذكورة وحتى عام 1971 وهو عام مشؤوم مالياً على البشرية جميعاً فقد انكشفت هذه المعاهدة العظيمة فجأة عن خطة جهنمية مدبرة مسبقاً من الرأسمالية الأمريكية المتوحشة لتدمير عملات العالم جميعها بلا استثناء ففي 15 آب عام 1971 أعلن الرئيس نيكسون إلغاء معاهدة بروتن دودكز وأعلن فصل الذهب عن الدولار وهكذا أصبح الدولار الجديد (دولار ما بعد عام 1971 ) عبارة عن ورق ملون بلا رصيد ذهبي وكذلك الأمر لجميع عملات العالم التي جرتها هذه الاتفاقية إلى التخلي التام عن الغطاء الذهبي لقيمتها الشرائية ثم بعد أن جردتها من هذا الغطاء دفعتها في طريق الانهيار بشكل بدء بطيئاً ثم متسارعاً.
وبالنسبة لليرة السورية فقد وصل انهيار قيمتها الشرائية في عام 2005 وفقاً للمعادلة الرياضية التي توصل إليها الباحث السوري محمد شريف المظلوم إلى /240/ضعفاً وإذا أردنا تلمس آثار هذا الانهيار على أرض الواقع فإننا نعود إلى النموذج العشوائي الذي اخترناه لعام 1971 أي ( س.ع 1971 ) لنقارنه بنفس النموذج لعام 2005 أي ( س.ع 2005 ) فنجد ما يلي أن (س.ع 2005 ) كان محظوظاً جداً على ما يبدو لأنه عثر على وظيفة حكومية براتب يصل إلى (7500) ل.س لكونه مهندساً تخرج بدرجة ممتاز جداً ولو كان نجاحه أقل من درجة جيد جداً لما وجد هذه الوظيفة آنذاك وبعملية حسابية بسيطة سنجد أن القيمة الشرائية لراتبه مقارنة بالقيمة الشرائية لراتب (س.ع 1971) تساوي :
7500 ل.س ÷830 (سعر غرام الذهب عام 2005 )=
500 ل.س ÷365 ( سعر غرام الذهب عام 1971 )= 137 غرام ذهب (س.ع 1971)
أي :
أن القوة الشرائية لراتب (س.ع971) بالليرة السورية تساوي في عام 2005 :
غرام الذهب سعر الذهب عام 2005
137 × 830 = 113710 ل.س
والفارق بالليرة السورية سيكون 113710 – 7500=106210 ل.س فقط !!!؟؟؟
أي أن راتب (س.ع 2005) من حيث النتيجة النهائية يساوي 6%من القوة الشرائية لراتب (س.ع 1971 ) فأين ذهب 94 % من أجور (س.ع 2005 ) ؟
فأين ذهبت 94 % من القيمة الشرائية لأجور العاملين في الدولة الشرفاء ؟
والذين ستضطرهم رواتبهم الممسوخة بهذا الشكل المريع جداً إلى الوقوع مأزق جهنمي فكيف سيتمكنون من تغطية مصاريفهم المعيشية دون الوقوع في المحظور والانغماس في بؤرة الفساد ؟
وهنا سنضطر لإلقاء نظرة سريعة على (س.ع 1971) نفسه لنرى كيف استطاع تدبير نفسه في عام 2005 بعد خدمة /34/عام في الدولة فنجد أن راتبه لعام 2005 لم يعد يصل إلى أكثر من 20 % من القيمة الشرائية لأول راتب تقاضاه في عام 1971 رغم جميع الزيادات العديدة على هذا الراتب فكيف سيعيش بدون أن يضطر إلى أخذ الرشوة أو سرقة الدولة أو التسول من المراجعين..؟؟
إذن ليس أمامه إلا أن يعمل /20/ ساعة من ليله ونهاره هذا إن وجد عملاً يزاحم به العاطلين عن العمل فإن لم يجد عملاً إضافياً مناسباً لمكانته وسنه فعليه أن يبيع منزله الذي سبق له أن اشتراه قبل /30/ عاماً من راتبه ويشتري منزلاً بديلاً عنه في ريف المدينة ومن فارق السعر بين قيمتي المنزلين يحاول الاستثمار في مشروع صغير كشراء سيارة عمومي أو حصة في مكرو باص لنقل الركاب أو لبيع البضائع أو يشارك في أي مشروع آخر يدر عليه دخلاً إضافياً يمكنه من سداد الضرورات المعاشية له ولعائلته وإذا عدنا إلى لغة الرياضيات الباردة فإننا نستطيع تصوير القوة الشرائية الافتراضية لرواتب العاملين في الدولة لعام 2005 مقارنة بالقوة الشرائية لهذه الرواتب في عام 1971 على النحو التالي :
قيمة راتب العامل العادي بلا تعويضات 135 ل.س راتبه قبل عام 971 × 240 ضعفاً = 32400 ل.س في عام 2005
قيمة راتب العامل حامل الإعدادية بلا تعويضات 180 ل.س راتبه قبل عام 971 × 240 ضعفاً = 43200 ل.س في عام 2005
قيمة راتب العامل حامل الثانوية بلا تعويضات 210 ل.س راتبه قبل عام 971 × 240 ضعفاً = 50400 ل.س في عام 2005
قيمة راتب العامل حامل المعهد المتوسط بلا تعويضات 290 ل.س راتبه قبل عام 971 ×240 ضعفاً =69600 ل. س في عام 2005
قيمة راتب العامل الجامعي الجديد بلا تعويضات 360 ل.س راتبه قبل عام 971 ×240 ضعفاً =86400 ل.س في عام 2005
قيمة راتب العامل الملازم (تلميذ ضابط)420 ل.س راتبه قبل عام 971 ×240 ضعفاً = 100800 ل.س في عام 2005
قيمة راتب المهندس الجديد 500 ل.س راتبه قبل عام 971 × 240 ضعفاً = 120000 ل.س في عام 2005
قيمة راتب القاضي الجديد 700 ل.س راتبه قبل عام 971 × 240 ضعفاً = 168000 ل.س في عام 2005
والآن ونحن أمام وضع تعديلات جديدة لقانون العاملين في الدولة ألا نجد أنفسنا ملزمين بتجنب أخطاء التعديلات السابقة التي دفنت رأسها في الرمال لنلقي ولو نظرة خاطفة على ما يفترض أن تكون عليه رواتب العاملين في الدولة بتاريخ هذا اليوم 1/6/2015 مقارنةً بعام 1971 لنجد ما يلي :
قيمة راتب العامل العادي =3835 غرا ذهب ×9700 ل.س سعر غرام الذهب في 1/6/2015 =371995 ل.س
قيمة راتب العامل حامل الإعدادية =49 غرام ذهب × 9700 ل.س سعر غرام الذهب في 1/6/2015 =475300 ل.س
قيمة راتب العامل حامل الثانوية = 60 غرام ذهب × 9700 ل.س سعر غرام الذهب في 1/6/2015 =582000 ل.س
قيمة راتب المعهد المتوسط = 80 غرام ذهب × 9700 ل.س سعر غرام الذهب في 1/6/2015 =776000 ل.س
قيمة راتب الجامعي الجديد = 99 غرام ذهب × 9700 ل.س سعر غرام الذهب في 1/6/2015 =960300 ل.س
قيمة راتب تلميذ الضابط = 115 غرام ذهب × 9700 ل.س سعر غرام الذهب في 1/6/2015 =1115500 ل.س
قيمة راتب المهندس الجديد =137 غرام ذهب ×9700 ل.س سعر غرام الذهب في 1/6/2015 =1328900 ل.س
قيمة راتب القاضي الجديد =190 غرام ذهب ×9700 ل.س سعر غرام الذهب في 1/6/2015 =1843000 ل. س
وهذه الأرقام تمثل قيمة الرواتب في بدء التعيين بدون أي تعويضات أو زيادات عليها والتي نتركها لخيال القارئ يجري حساباتها كما يشاء أو بحبوحة ويكفي أن نتمثل أن (س.ع 2015)قد أصبح راتبه (1328900 ل.س ) بما يعادل ال 500 ل.س راتب (س.ع 1971 )!!!!؟
وبعد استعراض المعطيات المالية السابقة ألم يئن الأوان لأن نعتمد الأسس المالية البحتة في إجراء التعديلات اللازمة على قانون العاملين في الدولة ؟!
أما بيان هذه الأسس ودراستها إذا توافرت القناعة اللازمة فهو موضوع بحث آخر .
المصدر: سينسيريا