يمضي اللبناني، باتريك أنكيري، قُدُماً في إنشاء بيوتٍ خشبيةٍ اقتصاديةٍ، مصرّاً على إقناع الجميع بأن تقنية تشييد المساكن الخشبية توفر تقريباً ثلث تكلفة بناء البيوت الإسمنتية. ألا يكفي أنها صديقة للبيئة؟
عندما أنشأ باتريك أنكيري، 36 عاماً، قبل 4 سنوات شركته (لا كابان - La Cabane)، المتخصصة في بناء بيوتٍ خشبيةٍ ذات طرازٍ أوروبيٍّ، بحجم أعمال يبلغ 300 ألف دولار، محققاً نسبة أرباح تتراوح بين 8 إلى %16 من ثمن كل منزلٍ يبنيه كاملاً، كان يدرك أن طريقه طويلة، ومهمته محفوفة بالتحديات. فاللبنانيون غير معتادين على هذا النوع من البيوت، ومن الصعوبة إقناع أحدهم بشراء بيتٍ خشبيٍّ بدلاً من المنزل التقليدي، المبني بالطوب والمدعّم بالإسمنت والحديد.
وعلى الرغم من ذلك، استطاع أنكيري تشييد 40 بيتاً خشبياً، ذات نوعيةٍ خاصةٍ من الخشب المجفَّف المستورد من دولة السويد، بمساحاتٍ مختلفةٍ، في مناطق لبنانية عدة، منها فاريا والقليعات والجمهور وبكفيا والسهيلة. وهو يعتبر أن ما حققه يُعد إنجازاً مهماً، فأغلب عملائه كانوا ممن يحبون الطبيعة والخشب، ويرغبون في امتلاك بيتٍ ثانٍ في منطقة جبلية، بعيداً من ضجيج المدينة وتلوثها.
وتتوزع المشاريع التي أنجزها أنكيري، حتى اليوم، على ثلاثة أنواع ذات مساحاتٍ متنوعةٍ؛ المكاتب، وتتراوح مساحتها المشيّدة من الخشب بين 8 و10 أمتار مربعة بكلفة 7 آلاف دولار، الوحدات السكنية، تتراوح مساحتها بين 100 و150 متراً مربعاً بكلفة نحو 700 دولار للمتر المربع الواحد، والوحدات الفخمة (ديلوكس)، المؤلفة من طابقين، والتي تتميز بوجود 5 غرف للبيت الواحد، والتي تزيد تكلفتها حسب الطلب والموازنة المرصودة. يقوم العميل بالدفع مقدَّماً نحو %60 من تكلفة الإنشاء، أي ما يغطي ثمن الخشب المستورد والمواد الأولية وكلفة الشحن.
يشجع أنكيري على البيوت الخشبية بالنظر إلى تكلفة البناء، قائلاً: "إن تكلفة تشييد المنزل الخشبي ثابتة". إنه يقارنها بأسعار البيوت العادية المبنية بالرمل والإسمنت والحديد، والتي تخضع لاعتبارات السوق المتقلبة، والمتجهة صعوداً في غالب الأحيان. على سبيل المثال، تبلغ تكلفة بناء بيت إسمنتي على مساحة تتراوح بين 100 و150 متراً مربعاً من 100 ألف إلى 150 ألف دولار أمريكي، أي بمعدّل 1000 دولار للمتر المربع الواحد. وذلك إذا ما أراد صاحب المنزل استعمال أفضل المواد في كل مراحل البناء، حتى يخرج البيت في أبهى حلة على شكل (فيلا) ذات سقفٍ من القرميد، أي على شكل يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ البيت الخشبي، الذي يشيّده أنكيري لعملائه، إنه يقول: "إذا ما توافرت قطعة الأرض، فإن تقنية تشييد المساكن الخشبية توفر تقريباً ثلث تكلفة بناء البيوت الإسمنتية".
ولكن قد تبدو تكلفة الصيانة باهظة الثمن نسبياً، حيث تبلغ كلفة صيانة الـ100 متر مربع نحو 1500 دولار. ويعمّر البيت الخشبي حسب أنكيري نحو 100 سنة في حال جرى الاعتناء بصيانته، داخلياً وخارجياً، كل 3 سنوات.
إلى جانب التكلفة هناك ما يشجع عليه أيضاً أنكيري، وهو الوقت الذي يستغرقه إنجاز البيت الخشبي كاملاً، حيث يصبح جاهزاً للسكن فوراً، في مدة تتراوح بين 3 و4 أشهر، وذلك رهناً بالمساحة والمواصفات المطلوبة، مقارنة مع البيت الإسمنتي الذي يتراوح تجهيزه من 8 أشهر إلى سنة، وذلك رهناً بمدى التزامات مورّد مواد البناء، ومتعهدي البناء والتوريق والدهان والبلاط والأدوات الصحية والكهرباء والباطون والنجارة، بالوقت وسرعة التنفيذ.
وهناك تقنية بناء خاصة في البيوت الخشبية يتبعها أنكيري، ومن يعمل معه من بنائين يتمتعون بالحرفية والبراعة، يديرهم ويشرف على أعمالهم أنكيري نفسه، ليضمن سلامة البناء، وطرق إنجازه على أتم وجه، حيث يتم تثبَّت الجوانب الخشبية فوق الأساس، بعدها تُركّب الجدران الحاملة. ويمكن تغطية الأرضيات بالبلاط أو الـ(باركيه)(البلاط البلاستيكي المضغوط والمعالج ضد الماء والرطوبة) أو السيراميك.
كما تتمتع البيوت الخشبية بدرجة صمودٍ كبيرةٍ أمام الزلازل والأعاصير، فضلاً عن تمتعها بالأمان ضد الحريق، لأن الخشب يُطلى بمواد عازلة خارجية مقاومة للحريق والرطوبة والحرارة والصوت. وبالتالي، "لا يحتاج البيت إلى تركيب أجهزة تكييف أو مدافئ"، على حسب قول أنكيري.
في حين يرى المهندس مجاهد زيادة، 39 عاماً، أحد مديري المشاريع في شركة (سوليدير) العقارية في بيروت، أن الفارق في درجة الحرارة بين داخل المنزل الخشبي وخارجه لا تقل عن 8 درجات مئوية, وذلك إذا كان العزل الحراري محكما جيداً في مختلف عناصر البناء، مشيراً إلى أن المنزل الخشبي يحتاج إلى فترةٍ قصيرةٍ للتحكم بحرارته الداخلية، سواء عن طريق أجهزة التكييف الكهربائية أو المدافئ الطبيعية التي تعتمد على الحطب أو المازوت. وذلك مقارنة بالمدة التي يحتاج إليها المنزل الإسمنتي لتكييف حرارته الداخلية، سواء في الصيف أو الشتاء.
أنكيري يدرك أنه ليس من السهل الترويج لفكرته، ولكن لعل تشييده نموذجا لبيتٍ خشبيٍّ مفروشٍ بالكامل، حيث يكون جاهزاً للسكن والعرض في الوقت ذاته ليقنع به عملاءه، يساعده كثيراً على الترويج لبيوته الخشبية. فهو يقول وبثقةٍ: "إن ترى بيتاً خشبياً على الورق شيء، وأن تشاهده بأم عينك وتسكنه... شيء آخر". ويعد هذا النموذج هو أول مشروع ينفذه. إنه منزله الشخصي الصيفي، يقع وسط أشجار الصنوبر في قرية الدوّار الوادعة في جبل لبنان، والتي تعلو نحو 1000 متر عن سطح البحر.
ويعتمد أنكيري أسلوب الرسائل الإلكترونية الدعائية للترويج لأعمال شركته الناشئة، بهدف جذب فئات الشباب اللبناني، من متوسطي الدخل، المقبلين على الزواج، وغير قادرين على شراء بيوت نظرا إلى ارتفاع أسعار العقارات، التي وصلت إلى أرقامٍ قياسيةٍ منذ سنواتٍ، إذ ارتفعت أسعار الأراضي في بعض المناطق اللبنانية بنسب راوحت بين 200 و%400 في 5 سنوات. فيما قفزت أسعار الشقق السكنية بنسب راوحت بين ضعفين و3 أضعاف خلال المدة ذاتها.
شركة (لا كابان) بدأت فكرة إنشـائها عـام 2006، عندمـا شـارك أنكيـري فـي معـرض (غاردن شو) في بيروت لعرض كوخٍ خشبيٍّ صغيرٍ (نحو 6 أمتار مربعة) كان اشتراه من السويد ليضع فيه أدواته الخاصة. ولما جذب ذلك الكوخ الأنيق آلاف الزوّار في المعرض، جاءت له فكرة تسويق البيوت الخشبية في لبنان من خلال استيراد المواد من السويد من الشركات المتخصصة في بناء البيوت الخشبية. يمضي أنكيري يومياً نحو ساعتين على الإنترنت للتواصل مع زوار الموقع الإلكتروني لشركته، أو عبر مجموعة (بيوت خشبية في لبنان) التي أنشأها على موقع (فايسبوك) الاجتماعي.
يُسرِّح أنكيري نظره في اتجاه غابة من أشجار الصنوبر والشربين بجوار بلدة بعبدات الجبلية، ويقول: "طموحي أن أبني قريةً نموذجيةً كاملةً من البيوت الخشبية الصديقة للبيئة". ثم يأخذ نَفَساً عميقاً، ويتابع: "ما من شيء مستحيل. كل المشاريع الكبيرة تبدأ بحُلم".
نقلا عن مجلة فوربس العربية