ارتفاع معدل النمو الاقتصادي المتحقق في سورية ، لم يترك أثره على الطبقات المتوسطة والفقيرة بالشكل المطلوب هذا ما قاله الدكتور نبيل سكر الخبير الاقتصادي و مدير المتب الاستشاري للتنمية والاستثمار بدمشق في حوار لموقع مصادر.
1- كيف تقرأ واقع الاقتصاد السوري الراهن بعد سنوات من عملية الإصلاح الاقتصادي ؟
اعتقد أن تسارع خطوات التحرير الاقتصادي في السنوات العشر الأخيرة والتي تتضمن تحرير الأسعار والتجارة وتطوير البيئة التشريعية والتنظيمية لتتماشى مع متطلبات اقتصاد السوق، ساعدت على رفع معدلات النمو الاقتصادي إلى حوالي 5% في السنة، ولولا مشكلة الجفاف في السنوات الثلاث الماضية والأزمة المالية العالمية لتحققت معدلات نمو أعلى من ذلك. لكن ارتفاع معدل النمو، لم يترك أثره على الطبقات المتوسطة والفقيرة بالشكل المطلوب، وهنا تكمن المشكلة، بسبب نوعية الاستثمار الذي تم والذي لم يكن كله استثماراً إنتاجياً، وكذلك لأن عملية الإصلاح والتحرير ما زالت في بدايتها والإصلاح في بدايته له ثمن بسبب تقليص الدعم، وتحرير الأسعار، ووقف التوظيف الاجتماعي وغيره، والمطلوب الآن التوجه نحو إجراءات التمكين والتطوير المؤسساتي.
ومن جهة أخرى، فإن زيادة المستوردات خلال السنوات الماضية نتيجة التحرير التجاري، مضافاً إليها تقلص الصادرات النفطية نتيجة تآكل الاحتياطي النفطي، زادت من عجزنا التجاري إلى حدود 4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة عالية، لكنها لا تضعنا في موضع الخطر، خاصة مع تملكنا لاحتياطي كبير من العملات الأجنبية يقدر بحوالي 17 مليار دولار وهو يكفي لتغطية قيمة 9 أشهر من المستوردات.
كما نلاحظ أن معدلات التضخم انخفضت في السنتين الأخيرتين بسبب انخفاض أسعار السلع العالمية المستوردة نتيجة الركود الاقتصادي العالمي، وبسبب تراجع المضاربة في السوق العقاري المحلي.
2- لماذا لم تنعكس آثار ذاك النمو الاقتصادي الذي وصفه البعض بـ "المحابي" على فئات المجتمع المختلفة؟
خطوات الإصلاح التي تمت هي على الطريق الصحيح، لكن الإصلاح ليس مجرد تحرير أسعار وتجارة وتقليص للدعم ورفع للقيود على نشاط القطاع الخاص. هذا هو جانب التحول إلى اقتصاد السوق وهو الجانب السهل من الإصلاح، لا بل أن بعض جوانب هذا الإصلاح تترك أثراً سلبياً على بعض الجهات.
لكن الإصلاح في حقيقته عملية طويلة ومعقدة تشمل تغيير في الذهنيات لدى كل من أصحاب القرار كما لدى المدراء في الحكومة، كما تشمل تغيير في ذهنية وطموح القطاع الخاص، خاصة إذا كان الاقتصاد يرسخ ولمدة طويلة تحت نظام للتخطيط المركزي.
وإضافة إلى تغيير الذهنيات يتطلب الإصلاح تقوية القدرات المحلية وتطوير المؤسسات وتغيير نظم التعليم والإدارة وغير ذلك. ولا شك أن الدولة تسعى ومنذ سنوات لتقوم بكل هذه النشاطات لكن ما يجب عمله ضمن كل من هذه النشاطات يتطلب إجماع أصحاب القرار حول إجراءاته، وإذا ما تم الإجماع حول إجراءاته فهو يحتاج لوقت طويل لتطبيقه خاصة في ظل ضعف قطاعنا الإداري الحكومي، أي أن جانب التمكين من الإصلاح بأخذ وقت حتى تظهر نتائجه .
ومن جهة أخرى حين ينتقل بلد ما من اقتصاد موجه إلى اقتصاد السوق فهو يحتاج، كجزء من الإصلاح، إلى إقامة شبكات حماية اجتماعية جديدة، تشمل برامج تعويض البطالة والتأمين الصحي للجميع وغيره، لتحل محل بعض شبكات الحماية الاجتماعية في الاقتصاد الموجه مثل منظومات الدعم والتوظيف الاجتماعي وتثبيت الأسعار، وغير ذلك.
ونحن تأخرنا في إقامة شبكات الحماية الاجتماعية الجديدة بينما باشرنا بسحب بعض الشبكات القديمة.
3- فقدان القطاع الإنتاجي المحنة الأبرز للاقتصاد السوري في الوقت الحاضر، كيف يمكن رفع قدرته على الريادة في عملية الدخول إلى النظام الاقتصادي العالمي؟
هناك مسؤولية على الحكومة كما على القطاع الخاص للخروج من الجمود القائم في القطاعات الإنتاجية الرئيسية وخاصة قطاعي الصناعة والزراعة. الحكومة عليها إعادة النظر بالكثير من السياسات الاستراتيجيات القطاعية من جهة وعليها رفع كفاءة جهازها الإداري.
من جهة أخرى. كذلك على القطاع الخاص الإنتاجي إصلاح نفسه مؤسساتياً كما ذكرنا. ومن جهة أخرى لا بد من إقامة المؤسسات والشركات الداعمة للعمل الإنتاجي كالمؤسسات المالية متنوعة المنتجات والمؤسسات الاستشارية متنوعة الخدمات، كاستشارات السوق ، واختيار المشاريع وإعادة هيكلة الشركات وإقامة الشراكات مع الخارج وكفاءة تنفيذ المشاريع واختيارالتكنولوجيا وغيرها. وكذلك هناك حاجة إلى مؤسسات وشركات التدريب والتأهيل على نطاق واسع.
4- يصف البعض رفع القدرة التنافسية لاقتصادنا بالمستحيل، في ضوء قطاع عام هرم وقطاع خاص ضعيف ما السبل لرفعها؟
رفع القدرة التنافسية لاقتصادنا ليس بالمستحيل، ولكن يجب العمل على مستويات عدة لرفع هذه التنافسية، العمل على مستوى الاقتصاد الكلي كما على مستوى الإدارة الحكومية وعلى مستوى المنشأة. وإذا تكلمنا على مستوى السياسات والاقتصاد الكلي فهناك إجراءات عديدة تمت بالاتجاه الصحيح في السنوات الأخيرة ولكن هناك قصور على مستوى الإدارة الحكومية.
أما إذا تكلمنا على مستوى المنشأة فالحاجة أصبحت ماسة لحلّ مشكلة القطاع العام الاقتصادي وخاصة الصناعي منه وهو القطاع المغرق في الهرم والذي أصبح غير قابل للإصلاح.
ولم يعد هناك من حلّ إلا خصخصته، حتى نحول هذه الكتلة الاستثمارية إلى كتلة موردة للربح وقادرة على المنافسة. ولكن إذا اعتمدنا الخصخصة فيجب أن نتم هذه العملية بشكل مدروس وشفاف حتى لا يخطفها الأقوياء، كما حصل في بلاد أخرى.
أما القطاع الخاص فالمطلوب منه أن يطوّر نفسه إدارياً وتنظيمياً، حتى يستطيع المنافسة، ويقود عملية التنمية الإنتاجية، ويساهم في إدخال سورية في الاقتصاد الإقليمي كما في الاقتصاد العالمي.
والفرص كبيرة جداً أمام القطاع الخاص بعدما اعتنقت الحكومة اقتصاد السوق رسمياً، وفتحت له كلَّ الأبواب. ولكن عليه كذلك ألا يركض وراء الربح السريع، كالاستثمار العقاري فقط بل عليه النظر في الاستثمار في الصناعة والزراعة والصحة والتعليم والخدمات المالية ومشاريع البنى التحتية وأن يقيم الشراكات مع الشركات متعددة الجنسيات، كما عليه أن يتحلى بالمسؤولية الاجتماعية، فهو الذي نعول عليه لأن يشكل البرجوازية الوطنية الجديدة في سورية المستقبل، بكل ما يحمله هذا الموقع من مسؤوليات وواجبات.
5- يؤخذ على الاستثمار في سورية، أنه تركز في قطاعات خدمية سياحية ومالية ذات معدلات ربح مرتفعة وسريعة، ما تأثير ذلك على الاقتصاد ككل؟
صحيح أن الاستثمار تركز في السنوات الأخيرة على قطاعات سياحية وعقارية ومالية، ولكن كان هناك كذلك استثمارات صناعية كبيرة خاصة في المدن الصناعية، عدرا، وحسياء، والشيخ نجار، ومعظم هذه الاستثمارات مازالت قيد التنفيذ، وستترك أثراً إيجابياً على الاقتصاد السوري حين تكتمل. وإذا عدنا إلى الاستثمارات الخدمية فهي استثمارات مطلوبة من حيث المبدأ.
ولكن العديد منها كان مجرد إعلان عن استثمارات ومشاريع مقبلة، وبعضها قد يلغى إذا وجد فيما بعد أن هناك فائضاً في العرض في زحمة هذه المشاريع. وبالنسبة للمشاريع العقارية وخاصة السكنية، فالاعتراض هو أنها اتجهت نحو السكن الفاخر عالي الريعية، وتجاهلت الطلب على السكن المتوسط.
أما الاستثمار في المشاريع المصرفية/ المالية فهو استثمار في الاتجاه الصحيح. ونحن بحاجة لمزيد من الاستثمار في الخدمات المصرفية المتنوعة، حتى نوسع ونعمق دور الوساطة المالية في الاقتصاد الوطني مما يدعم عملية النمو والاندماج في الاقتصاد العالمي.
ومن جهة أخرى لا يجب أن ننسى أنه كان هناك استثمارات مهمة في القطاع التعليمي، الأساسي والجامعي، في السنوات العشر الماضية، وهو استثمار مطلوب، وسيكون له أثر إيجابي على سوق العمل كما على عملية التنمية الاقتصادية في المدى المتوسط والبعيد.
6- اعتبرت وزارة الصناعة تأسيس شركة الاستثمارات السورية المساهمة القابضة (السورية للاستثمار)، بمثابة حكم الإعدام وتصفية تدريجية لمنشآت القطاع العام، ما تعقيبك على ذلك؟
هذه الشركة أقيمت بالأساس لتكون ذراع الدولة الاستثماري في مشاريع البنية الإرتكازية إضافة إلى إمكانية استحواذها لشركات أخرى. والقصد أن يقوم استثمار الدولة في المشاريع على أساس اقتصادي، وبحيث تعمل هذه الشركة على مبادئ اقتصاد السوق، وتلتزم بأنظمة التجارة التي تحكم عمل القطاع الخاص.
وقد أخضعت الشركة بالفعل لقانون التجارة الجديد مثلها مثل كل شركات القطاع الخاص، على خلاف شركات القطاع العام القائمة حالياً والتي تخضع كل منها لقانون إحداثها. وإذا ما أدى وجود هذه الشركة إلى تصفية تدريجية لمنشآت القطاع العام الحالية، وهي منشآت متدنية الكفاءة والريعية، وتستنزف المال العام، فما العيب في ذلك.
7- رأى البعض في تحرير قطاعات الاتصالات والنقل "البري والجوي" والكهرباء والماء تحت يافطة "التشاركية" بين العام والخاص، خصخصة على مرأى الجميع ما رأيك في ذلك؟
التشاركية بين العام والخاص ليست خصخصة، ولكن إذا كانت خصخصة فما هي المشكلة؟ التشاركية هي نموذج لتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في مشاريع المرافق العامة والبنية التحتية وهي مشاريع عادة ما تكون من اختصاص القطاع العام وريعيتها متدنية. والدافع للسعي لإشراك القطاع الخاص في هذه المشاريع هو محدودية موارد الدولة المالية والإدارية، في ظل الحاجة الماسة والمتزايدة لتطوير المرافق العامة من طرق ومواصلات واتصالات وكهرباء ومياه وغيرها، خاصة مع التزايد السكاني الهائل وتدفق السكان نحو المدن.
والتحدي في هذه التشاركية هو كيف نجذب القطاع الخاص للاستثمار في مشاريع طويلة الأجل (ربما 20 إلى 30 سنة) ومتدنية الريعية. هنا تأتي أهمية تشجيع القطاع الخاص للدخول في هذه المشاريع وأهمية تنظيم العلاقة وتوزيع المخاطر بين الدولة التي تشرف على هذه المشاريع والقطاع الخاص الذي نريده أن يستثمر ويدير.
والقطاع المصرفي الذي يساعد في التمويل، وهناك مشروع قانون تعده الدولة بهذا الخصوص، وتستشير في إعداده خبرات أجنبية متعددة ومتنوعة.
8- كباحث وخبير اقتصادي ، كيف ترى آفاق الاقتصاد السوري ونحن دخلنا الخطة الخمسية الجديدة، ويفترض أنها استفادت من السابقة؟
الخطة الخمسية الجديدة تركّز على ما فاتنا في الخطة السابقة، والخطة الجديدة تسعى إلى استثمار 100 مليار دولار مابين القطاع العام والقطاع الخاص، خلال سنيها الخمس، وتتضمن توزيع استثمارات القطاع العام فيها على شكل ثلث، ينفق على التنمية البشرية والإصلاح الإداري وبرامج الحماية الاجتماعية ، وثلث على تطوير البنية التحتية، وثلث على دعم القطاعات الإنتاجية، وهذا التوزيع يبدو لي أنه توزيع جيد، وعسى أن نكون بهذه الخطة قد انتهينا من التحرير التجاري، وانتقلنا إلى تعزيز القدرات.
وفي رؤية الخطة أن هذا التوزيع في الإنفاق الاستثماري الحكومي مضافاً إليه الاستثمار المتوقع من القطاع الخاص سيحقق معدلات نمو بحدود 5% بالسنة. هذه السياسات وهذا النمو لا شك سيخلق فرص عمل كبيرة ومتنوعة مما سيساعد في مواجهة مشكلة البطالة.
كما أن برامج الحماية الاجتماعية المتوقع إدخالها ستساهم في مواجهة مشكلة الفقر. ولكن في الواقع إننا بحاجة لمعدلات نمو أعلى وبرامج اجتماعية أكبر لحل هاتين المشكلتين، وهذا يأتي من خلال توفير المزيد من الأموال الاستثمارية وتعميق عملية الإصلاح الاقتصادي أكثر وأكثر ، مما قد يكون متعذراً في الوقت الحاضر لأن تعميق عملية الإصلاح يتطلب إجماعاً في الرؤية وإجماعاً على الأولويات لدى أصحاب القرار، مترافقاً مع نظام إداري متميز بالكفاءة وقدرة على اتخاذ القرار السريع، وهذا غير متوفر الآن. لا بل ما أخشاه أن تدعونا التغيرات التي تمر بها المنطقة إلى التراجع والانكفاء بدلاً من الاندفاع إلى الأمام.
9- كيف ترى فعالية دور جمعية رجال وسيدات الأعمال في بيئة الأعمال السورية، وكيف ترى فعالية دورك كعضو في الجمعية؟
في الواقع إن الجمعية تمثل طبقة رجال الأعمال الجدد في سورية، رجال الأعمال الذين سيقودون العملية الإنتاجية في سورية، وسيُدخِلون سورية في الاقتصاد العالمي، وسيشكلون وجه سورية الاقتصادي الجديد.
وقد أثبتت الجمعية وجودها في بيئة الأعمال السورية من خلال نشاطاتها المتنوعة وكفاءة إدارتها وفتح المجال لأعضائها لتقديم علمهم وخبراتهم. ولكني أتمنى على الجمعية المزيد من تبني قضايا التنمية والقطاع الخاص مع الحكومة والمزيد من تحريض القطاع الخاص على مواجهة قضاياه مع نفسه، وأعني هنا قضايا الريادة والتطوير المستمر والمسؤولية الاجتماعية وغيرها.