خلال السنوات الماضية، ارتفعت حصّة مصرف لبنان في سندات الخزينة بوتيرة مطّردة. قبل خمس سنوات كان «المركزي» يحمل فقط 10043 مليار ليرة، إلا أنه يحمل اليوم 16761 مليار ليرة، أي بزيادة قيمتها 6718 مليار ليرة، وما نسبته 66.9%. لا نقاش جارٍ حالياً بين خبراء المال والاقتصاد والمصرفيين حول هذه الظاهرة. فهل هي صحية؟ هل هي قانونية؟ هل هي ضرورية؟ هل يمكن أن يستمر مصرف لبنان على هذا المنحى؟
محمد وهبة
في نهاية عام 2013 ارتفعت حصّة مصرف لبنان من محفظة سندات الخزينة بالليرة اللبنانية إلى 16761 مليار ليرة، أي ما يوازي 30% من هذه المحفظة البالغة 46538 مليار ليرة. وفي نهاية عام 2012 كان مصرف لبنان يحمل 14594 مليار ليرة، أو ما يوازي 22.5%، أي إن حصّة مصرف لبنان ارتفعت بنحو 2167 مليار ليرة وما نسبته 14.8% خلال سنة واحدة فقط.
وبعيداً عن التذبذبات الفصلية في هذه الحصّة ارتفاعاً ونزولاً، إلا أن النتائج المسجّلة خلال السنوات الخمس الأخيرة، كشفت عن ازدياد هائل في حجم التوظيفات التي يقوم بها مصرف لبنان لتمويل الدولة. وقد بلغت نسبة الزيادة الوسطية في توظيفات مصرف لبنان في سندات الخزينة بالليرة 13.3% سنوياً.
واللافت أن ارتفاع حصّة مصرف لبنان جاء متزامناً مع أمرين: تضخّم محفظة سندات الخزينة بالليرة اللبنانية، وانخفاض حصّة المصارف في هذه المحفظة.
وبحسب الإحصاءات الصادرة عن جمعية مصارف لبنان، فإن محفظة سندات الخزينة كانت تبلغ في عام 2009 نحو 44577 مليار ليرة، وارتفعت إلى 55774 مليار ليرة، أي بزيادة قيمتها 11197 مليار ليرة. وقد عمد مصرف لبنان إلى الاكتتاب بالقسم الأكبر من قيمة هذا الفرق. ففي هذه السنوات الخمس، ازدادت حصّة مصرف لبنان بما قيمته 6718 مليار ليرة، أي ما يوازي 55.2% من قيمة الزيادة. أما المصارف اللبنانية فقد اكتتبت بما قيمته 2596 مليار ليرة. وبالتالي فإن حصّة مصرف لبنان من محفظة السندات خلال السنوات الخمسة الأخيرة تعادل 2.6 أضعاف حصّة القطاع المصرفي بكامله. أما سبب «توق» مصرف لبنان للاكتتاب في سندات الخزينة، فهو أن المصارف كانت تمتنع عن الاكتتاب في سندات خزينة جديدة بسبب رغبتها في الاكتتاب في شهادات الإيداع المربحة أكثر التي يصدرها مصرف لبنان بفوائد تزيد على 9% مقارنة مع فوائد سندات الخزينة التي لا تزيد على 6.5%.
إذاً، ما هي النتائج التي تترتب على هذا الوضع؟ يشير خبير مطلع إلى أن النموذج القائم في لبنان لتمويل الدين العام يعتمد على استمرار تدفق الودائع إلى المصارف، وهذه الأخيرة تغطي حاجات الدولة من خلال الاكتتاب بسندات الخزينة... لكن ما حصل هو أن هذه الحلقة المفرغة استمرّت بالاتساع إلى أن أصبحت بمثابة فجوة هائلة يكاد يستحيل ردمها، فضلاً عن أن انخراط المصارف في تسليف الدولة زاد من تركيز مخاطر تسليفاتها... وبالتالي، فإن هذه الفجوة تحديداً مثّلت المبرّر الأساسي الذي خلقه مصرف لبنان لنفسه لإزاحة الضغط عن المصارف وحمله على كتفه من خلال زيادة انخراطه في تمويل الدولة.
هكذا ارتفعت حصّة مصرف لبنان، زاد تركيز مخاطره مع الدولة اللبنانية. لكن إلى أي مدى يسمح قانون النقد والتسليف بهذا الأمر؟
شمبور: مبرّر وجود مصرف لبنان ينتفي مع الانخراط في تمويل الدولة
يجيب الخبير في القانون النقدي توفيق شمبور، قائلاً إن قانون النقد والتسليف يتيح لمصرف لبنان شراء سندات الخزينة التي تصدرها الدولة اللبنانية، لكن إجازته محصورة بشراء السندات من السوق الثانوية، وليس بواسطة الاكتتاب. ويضيف شمبور أن هناك شروطاً واضحة لهذه العملية لجهة آجال السندات ومدّة حملها. فالمادة 88 من قانون النقد والتسليف تمنح مصرف لبنان إجازة لمنح الدولة، بطلب من وزير المال، «تسهيلات صندوق لا يمكن أن تتعدى قيمتها 10% من متوسط واردات موازنة الدولة العادية في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها، ولا يمكن أن تتجاوز مدّة التسهيلات أربعة أشهر». وتضيف المادة 91 أنه «في ظروف استثنائية الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى، إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط حاكم المصرف المركزي علماً بذلك، ويدرس المصرف المركزي مع الحكومة إمكان استبدال مساعدته بوسائل أخرى، كإصدار قرض داخلي أو عقد قرض خارجي أو إجراء توفيرات في بضع بنود النفقات الأخرى أو إيجاد موارد ضرائب جديدة... وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنه لا يوجد أي حلّ آخر، وإذا ما أصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب. حينئذ يقترح مصرف لبنان على الحكومة، إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحدّ مما قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة، وخاصة الحدّ من تأثيره في الوضع الذي أُعطي فيه على قوّة النقد الشرائية الداخلية والخارجية».
وتقول المادة 95 من قانون النقد والتسليف إن عقد القرض بين الدولة اللبنانية ومصرف لبنان «يحال على مجلس النواب مع كامل ملف دراسات وتقارير الإدارة ومصرف لبنان».
هذه النصوص توضح كل القصّة، فهي تشير إلى شروط إقراض الدولة، وإلى المخاطر التي تترتب على ذلك، لا بل إنها تتحدث بوضوح عن أن خيار الاستدانة من مصرف لبنان هو آخر الخيارات في الحالات الاستثنائية والمرتفعة الخطورة التي يجب اللجوء إليها بعد إصرار الحكومة... لكن ما يحصل على أرض الواقع هو أمر مخالف تماماً؛ فمنذ سنوات عديدة دأب مصرف لبنان على تمويل الدولة والاكتتاب بسندات خزينة آجالها تزيد على أربعة أشهر بكثير، ولهذا يعتقد شمبور أن «مبرّر وجود مصرف لبنان انتفى في هذه الحالة، لأنه لو كانت الدولة تريد أن تطبع الأموال لتمويل حاجاتها، كما يفعل مصرف لبنان حالياً، لكان القانون قد سمح لها بذلك مباشرة ولم تكن هناك حاجة لوجود مصرف مركزي». واللافت، في رأي شمبور أن «الفوائد التي تدفعها وزارة المال على سندات الخزينة التي يحملها مصرف لبنان تتراكم كديون على الشعب اللبناني من دون أي مبرّر».
أما عن تجارب الخارج، فيشير شمبور إلى حكم صدر أخيراً في ألمانيا يقضي بمنع «المصرف المركزي الألماني من الاكتتاب في سندات خزينة تصدرها الدولة في إطار تمويل ديونها»!
المصدر: ( جريجة الأخبار اللبنانية -b2b-sy(