بقلم : الدكتور نادر الشيخ الغنيمي
إذا أردنا تجنب الأخطاء التي وقع فيها الآخرون حين حاولوا طرح حلولٍ إسلامية للمشاكل الاقتصادية المعاصرة علينا أن نستفيد من الأخطاء التي وقعوا بها.
لقد حاول المفكرون المسلمون المعاصرون تطويع النص للواقع بدلاً من أن يحاولوا تغيير الواقع إلى رحاب النص.علينا أن نقوم بمقاربة مختلفة تعتمد على فهم المقاصد الشرعية فهماً صحيحاً وبناء مقومات الاقتصاد الإسلامي وفقها. إن المفكر الإسلامي عليه أن يتحلى بالشجاعة والقدرة على وضع تصور خارج إطار المفاهيم الحالية للاقتصاد العالمي.
لقد وجد المفكرون المسلمون المعاصرون أنفسهم أسرى تفشي البنوك الربوية ومفاهيمها ,فحاولوا تطويع النصوص وانتهى بهم المطاف إلى تأسيس بنوكٍ لا تختلف كثيراً عن عمل البنوك الربوية ومناهجها.
لقد كان الأحرى بهم التركيز على الفارق الجوهري بين الإسلام والمفاهيم الرأسمالية القائمة على فكرة البنوك ذات مبدأ الربا الثابتة التي تتوافق مع رغبة صاحب الرأسمال أن يكون له ريعٌ على الرأسمال دون أن يتعرض لمخاطر الخسارة. إن المجتمع الرأسمالي أوجد البنوك التي هي العمود الفقري للنظام الاقتصادي الرأسمالي الحالي . وكان لهذه البنوك دوراً جوهرياً في توجيه الأموال الفائضة نحو الاستثمار مقابل منفعة لصاحب الرأسمال ومنفعة للمقترض الذي بدوره يقوم بدور في الاقتصاد الرأسمالي.ولقد سارت الأمور وفق ما يشتهي الطرفان وأدت البنوك دورها في التنمية تشوبها فترات من الأزمات بسبب طبيعة النظام البنكي ولا نريد أن نناقش ذلك الآن.
سرعان ما تنامى دور البنوك وأصبحت سياسات الدول الرأسمالية تعتمد على البنوك ,إذ حصل تطور خطير فأصبحت البنوك إحدى وسائل الدولة لتحريك اقتصاد المجتمع. لقد أعطت الدول للبنوك حق إحداث المال(وهو أمر سيادي)وذلك عن طريق ما يعرف Fractional Reserve بالاحتياط الجزئي إذ تحول كل دولار يدخل إلى البنوك إلى عشرة دولارات في الدورة البنكية مما ضاعف إلى عشرة أضعاف حجم الأموال المتداولة في النظام البنكي.
أما في الإسلام فإن الجوهر في زيادة المال هو العمل وكل قرض جر منفعة فهو ربا.كان على المفكرين المسلمين أن يعرفوا أنه ليس للبنك نفس درجة الأهمية في الاقتصاد في مفهوم الإسلام كما هي الحال في الاقتصاد الرأسمالي الربوي.
لقد كان الأولى تطوير فكرة الشركات القابضة التي تتألف من شركات أم تقوم تحت لوائها شركات في مجالات متعددة تغطي كافة الأنشطة الاقتصادية وبالتالي تنويع المخاطر. لو تنبه المفكرون المسلمون إلى هذا الفرق الجوهري منذ البدء لما أضاعوا فترة ثلاثة عقود منذ بدء نشوء البنوك الإسلامية التي لانرى لها أثراً كبيراً في التنمية.
إن المفكرين الاقتصاديين المسلمين عليهم أن يجدوا حلولاً لمشكلتين مع مراعاة المقاصد الشرعية .المشكلة الأولى هي فئات من الناس تملك فائضاً مالياً وتود أن تستفيد منه في ريع مقبول دون مجازفة كبرى ودون اللجوء إلى الربا.والمشكلة الثانية فئات من الناس من القادرين على العمل والذين يملكون أفكاراً ومهارات ولكن ينقصهم المال لتحقيق أهدافهم ويتعففون عن الاستدانة بالربا.
إن المساهمة في الشركات القابضة هي الحل لمشكلة الفئة الأولى.
إن تدفق الأموال الهائل على البنوك الإسلامية في خلال العقدين الماضيين أبرز أن هذا الكم من الأموال لا يمكن استيعابه في المشاريع الفردية وفق لمبدأ المضاربة الإسلامية. ولأن المضاربة لها مفهوم مختلف في الإسلام لا بد لنا أن نوضحه :فهي أن يكون صاحب المال شريك مع صاحب العمل ويتقاسما الربح وفق نسب متفق عليها أما الخسارة فهي على صاحب الرأسمال وخسارة الجهد على الطرف الثاني.ويجب التنويه أن هناك عاملين أولهما أن انتشار قلة الأمانة والفساد قد يؤدي أحياناً إلى ديون معدومة,بالمقابل إن أكثر الشركات نجاحاً في العالم بدأت بأصحاب أفكار مبدعة لا يملكون ما يكفي من المال لذلك لا تشكل المضاربة حلاً لمشاكلهم فقط بل قد تكون مدخلاً إلى إيرادات جيدة وتنمية حقيقية ملموسة.
أما من يطرح التساؤلات عن الحلول المقدمة لإيجاد بديل شرعي لسندات الخزينة التي تؤمن الأموال للحكومات لتسيير دفة البلاد.فهنا يتفرع عن ذلك أمران أولهما أن تكون الحاجة إلى الأموال من أجل إحداث مشاريع تنموية وبنى تحتية وهنا يمكن أن تقوم الشركات بتنفيذ المشاريع بنفسها وهذا عمل, ومن ثم يتم قبض الثمن من الحكومة بشكل أقساطٍ مؤجلة(الإستصناع).أما الحاجة للمال من أجل صيانة المشاريع القائمة فيمكن أن تتم عن طريق الشركات التي تتقاضى أجورها بدفعات مقسطة.أما النفقات التي تعود إلى نفقات جارية تتعلق بالرواتب فإنه لا يوجد أي حل شرعي حقيقي دون التحايل على مفهوم الربا.ومن قال أن الاستثمار في ديون حكوماتٍ تعجز عن أداء رواتب موظفيها خالٍ من المخاطر.إن مشكلة المشاكل في النظام المالي العالمي هي تراكم الديون على الحكومات والشعوب من جراء هذه السياسات والتي تُشكل عبئاً على الأجيال القادمة.وهذا ما دفع البعض إلى القول أن ذلك يشبه من يرهن مستقبله من أجل حاضره.وفي الحالات القاهرة يمكن للحكومة أن تقوم بخصخصة جزئية لمنشأة من منشآتها وتعاود شراءها حين تسترد العافية.
لا يشكك أي عاقل أن المقصد الشرعي ليس تنمية المال بأي طريقة ومآل بل إلى تنمية المجتمع من خلال دورة المال.
لقد ابتلى الله هذه الأمة بعلتين العلة الأولى صناديق سيادية تستثمر في الخارج بلغت خسائرها في الأزمة الحالية 400مليار دولار. ويكفي أن نقارن أن كلفة مفاعل نووي لتوليد الكهرباء أو تقطير وتحلية المياه هي 2 مليار دولار لندرك مدى الإجحاف .أما العلة الثانية فهي البنوك التي تجمع أموال الناس ولا يُرى لها أي أثر حقيقي في التنمية وتتسابق البنوك الأجنبية على استحداث فروعاً لها لما أصبح يُعرف بالمصارف الإسلامية ومآل هذا المال إلى التنمية في الدول الأجنبية!!!