هل تدخل روسيا في مشكلات مالية واقتصادية مع الولايات المتحدة على خلفية العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، التي تشمل إجراءات ضد الدول التي تخرج على تلك العقوبات وترتبط بعلاقات مع الولايات المتحدة؟ وهل تشمل الإجراءات الأمريكية أيضاً الدول التي لا تمتثل للعقوبات على سوريا؟
فقد نقلت وكالة “إنترفاكس للأنباء” الروسية، الثلاثاء الماضي، عن وزارة الخارجية الروسية تحذيراً شديد اللهجة للولايات المتحدة برفض أي إجراءات تطال مؤسسات روسية تتعامل مع إيران . “ويجب أن تفهم واشنطن أن علاقتنا الثنائية ستتعرض في حال مست العقوبات الأمريكية وكلاء روس في مجال الاقتصاد يتعاملون مع جمهورية إيران الإسلامية تطبيقاً لأحكام قوانيننا والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي” . وفي التحذير أن موسكو “لا تعترف بعقوبات عديدة أحادية الجانب فرضتها واشنطن، ونعتبر أنه من غير المقبول أن تشمل أحكام القوانين الأمريكية الداخلية العالم كله . كما أننا نرفض أساليب التخويف والتهديد السافر الذي تلجأ إليها الولايات المتحدة إزاء شركات ومصارف في دول أخرى” .
تخوض الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة مع تفكك الاتحاد السوفييتي، حرباً ساخنة وحقيقية من خارج ترسانتها العسكرية . ميدان هذه الحرب المال والمصارف . توازن الرعب الذي حمى العالم زهاء نصف قرن من حرب كونية ثالثة مدمرة، غير متوافر في حرب المال والمصارف . الولايات المتحدة تحوز ترسانة الرعب وأدواتها في الحرب المالية المصرفية، وتستخدمها لأغراض اقتصادية وسياسية وأمنية . لا أحد يمتلك ما تمتلكه في هذه الحرب ولو نسبيا إلاّ أوروبا، إنما يحتاج استخدامها أولاً إلى إرادة سياسية . وأوروبا حليف موثوق للولايات المتحدة، لا تتورع الأخيرة عن عقاب مؤسساته المالية والمصرفية حين ترى مساساً بمصالحها الاستراتيجية، حتى لو كان الأمر متعلقاً ببريطانيا حليفها الأوثق أوروبياً ودولياً .
الولايات المتحدة استهدفت في أقل من عام ثلاثة من أهم المصارف البريطانية والعالمية: إتش إس بي سي، باركليز وستاندرد تشارترد، بدعوى تبييض أموال مخدرات، وتلاعب بفائدة ليبور وخرق العقوبات الاقتصادية والمالية على إيران . وما زالت الضغوط قائمة على سويسرا على خلفية دورها ملاذاً لحسابات مكلفي الضريبة في الولايات المتحدة من أمريكيين وغيرهم . وقد غرمت وزارة العدل الأمريكية للسبب عينه في ،2009 مصرف يو بي إس الأكبر في سويسرا 780 مليون دولار أمريكي . صحيح أن الولايات المتحدة لا تتهاون في هذا المجال مع مؤسسات أمريكية، لكننا لا نذكر أن دولة أوروبية أو غير أوروبية اتهمت مصرفاً أمريكياً أو عاقبته .
تجاهلت الولايات المتحدة الضجة السياسية والإعلامية التي أثارتها قراراتها في بريطانيا . بما في ذلك اتهامها ب “محاولة تقويض مركز لندن المالي” على ما قال عضو لجنة المال في مجلس العموم جون مان في جلسة للجنة الأسبوع الماضي . إذا أحيل ستاندرد تشارترد إلى القضاء بموجب قوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فستكون النتيجة قفل فرع المصرف في نيويورك وتصفية أعماله في الولايات المتحدة، أي عملياً نهاية المصرف كلياً إما بالتصفية وإما بانتقال ملكيته إلى مصرف آخر . كان لافتاً أن هيئة الخدمات المالية في نيويورك هي التي حركت ملف ستاندرد تشارترد باتهامه بعمليات مصرفية مع طهران في حدود 250 مليار دولار أمريكي، وليس وزارة الخزانة وإدارة مكافحة تمويل الإرهاب، ربما لرفع الحرج السياسي، بعد أن اكتفى مساعد وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب ديفيد كوهين في معرض تعليقه على اتهام المصرف البريطاني بأن هيئة الخدمات المالية في نيويورك لم تنسق قرارها مع الوزارة .
الولايات المتحدة الآن أقوى من مجلس الأمن الدولي في تنفيذ العقوبات المالية والمصرفية في أي مكان من العالم . وحيث لا يقوى المجلس على إصدار قرارات سياسية واقتصادية وأمنية مع حق النقض “فيتو” للدول الخمس، فالولايات المتحدة قادرة على اتخاذ القرارات المالية والمصرفية وتنفيذها . أسلحة الترسانة الأمريكية ليس لكون اقتصادها نحو ربع الاقتصاد العالمي فحسب، بل لسيادتها على نحو 70 في المئة من أسواق الأسهم وسندات الدين في العالم، وعملتها قاعدة تسعير السلع والموارد النفطية والغازية، ومنها نحو 75 في المئة من الاحتياطات الدولية . كل الدولارات الأمريكية في العالم، لأي غاية كانت، ونتاج أي جهد في رياح الأرض الأربع، مقاصتها في مجلس الاحتياط الفيدرالي فرع نيويورك . حتى التعاملات بمئات التريليونات من الدولار النقدي، وهي عرضة للهلاك وعدم صلاحها للتداول بعد فترة، لا يطبع بديل منها إلاّ من خلال الطابعة الأمريكية .
تأخرت روسيا فلاديمير بوتين كثيراً . يتجاهل بوتين أن الإمكانات الهائلة التي تحوزها روسيا اقتصادياً، أصبحت رهينة القطاع الخاص والشركات الروسية، التي اندمجت في الاقتصاد العالمي، وقبلت بشروط هذا الاندماج وبقوانين العولمة ومؤسساتها الدولية . روسيا الدولة قادرة على مجابهة اقتصادية مع الولايات المتحدة طالما مسّت الأخيرة سيادتها، لكن القطاع الخاص الروسي وشركاته سترفض المجابهة مع الولايات المتحدة . لا مشاعر قومية للوردات المال في روسيا حين المساس بمصالحهم . ولا روسيا مؤهلة لحرب اقتصادية باردة
المصدر: عصام الجردي نقلا عن جريدة الخليج الامارتية