يتخطى د. عابد فضلية في مقاله التالي تناول السياسة النقدية من منظورها الوصفي البحت إلى منظورٍ استنباطي يجّس فيه الواقع في جدلياته المعاشة ويصل بها إلى خياراتٍ ونتائج في أسلوبٍ مكثّف القراءة. فهو الأكاديمي رفيع المستوى قبل أن يكون يستلم مديراً عاماً للمصرف العقاري.
لذا يرى في موضع متقدمٍ من مقاله أن الدولة مالت إلى الحفاظ على القوة الشرائية للمواطن من خلال لجم جموح التضخم وعدم رفع مستوى الأسعار لدرء تدهور مستوى معيشته وأقصت خيار الاحتفاظ باحتياطيّها من القطع الأجنبي مقابل المغامرة بارتفاع سعر القطع الأجنبي في السوق السوداء.
أي ارتفاع نسبة التضخم، وبالتالي ارتفاع مستوى الأسعار وانخفاض القوة الشرائية
جدلية السياسة المالية والتسليفية
أما عوامل متانة القطاع المالي فهي لا تنفصل عن العوامل المتجسدة بصحة واستقرار ومرونة ومصداقية وكفاءة السياسة النقدية ودينامكية السياسات التسليفية والاستثمارية والاقتصادية الأخرى، وبالتالي فإن متانة القطاع المالي واستقراره تساعد على نقل إشارات وتفعيل آليات تنفيذ السياسة النقدية وإنجاح أهدافها، وبالمقابل فإن نجاعة أو عدم نجاعة أهداف هذه السياسة النقدية تنعكس سلباً أو إيجاباً على القطاع المالي بما في ذلك سلوك وربحية وأداء المؤسسات المالية والمصرفية ودورها التنموي.
السياسة النقدية والظروف الموضوعية
ولمقاربة الوضع السوري والحديث عن السياسة النقدية للمصرف المركزي في ترسيخ الدور التنموي للمؤسسات المالية والمصرفية فمن غير المُنصف استقرائه حالياً في الإطار الاقتصادي التقليدي أعلاه ولا سيما في ظل الضغوط والتحديات المتشابكة المعقدة الموضوعية وغير الموضوعية المباشرة وغير المباشرة التي يفرزها الوضع الأمني الاستثنائي الذي يمر به القطر.
بحيث يُعد القطاع المالي هو الأكثر حساسيةً تجاهها. إذ نتحدث هنا عن العقوبات والمقاطعة الاقتصادية (ذات الأهداف السياسية)، وكذلك الخوف الشخصي (المُبرر وغير المبرر) على قيمة المكتنزات والمدخرات، والتهافت على شراء القطع الأجنبي واستعار حدّة المضاربة عليه في السوق السوداء في الوقت الذي سجلت وما زالت تسجل فيه قطاعات الإنتاج المادي والخدمي تراجعاً ملموساً، وقلّت فيه إيرادات الخزينة العامة للدولة وتراجعت الصادرات ومصادر تحويلات القطع الأجنبي.
الحفاظ على القطع الأجنبي أو القوة الشرائية
ووفقا لمجلة " المصارف والتأمين " يقول فضلية أن كل ذلك وفي ظل الضعف النسبي في إدارة الأزمة وارتباك القرار الاقتصادي والنقدي قد جعل الاقتصاد والمجتمع السوري ينساقان إلى زوايا تسليفية ونقدية ومالية وتنموية واستثمارية وإنتاجية ومعيشية قاسية وضيقة لا ترقى (رغم الظروف) إلى مستوى الطاقات السورية الحقيقية، ولا تنسجم مع ما هو ممكن سورياً. إذ من المهم في سياق هذا الحديث أن يتم استقراء السياسة العامة العليا للدولة فيما إن كانت سياسة لنموذج الدولة الليبرالية الحيادية (الحارسة) أم لدولة متدخلة (كما الأمر في سورية) تقوم بدورها السياسي الاقتصادي الاجتماعي التنموي، وذلك من خلال اتخاذ القرار فيما إذا كان الأهم هو (الخيار الأول) بالحفاظ على القوة الشرائية للمواطن من خلال لجم جموح التضخم وعدم رفع مستوى الأسعار لدرء تدهور مستوى معيشته [عبر عدة إجراءات على رأسها لجم ارتفاع سعر صرف القطع الأجنبي عن طريق التدخل الإيجابي في سوق الصرف من قبل المصرف المركزي] أم أن الأهم بالنسبة للحكومة هو (الخيار الثاني) بالاحتفاظ باحتياطيّها من القطع الأجنبي مقابل المغامرة بارتفاع سعر القطع الأجنبي في السوق السوداء، أي ارتفاع نسبة التضخم، وبالتالي ارتفاع مستوى الأسعار وانخفاض القوة الشرائية للمواطن؟!
الحد الأدنى من الواجب
إن القرار الحكومي حتى الآن هو الخيار الأول، وبالتالي فإن إنجاح أهداف هذا الخيار يبقى في ملعب مصرف سورية المركزي لذا لا نتمنى أن نقرأ في الصحف السورية عناويناً عريضة مثل (التجريب في القرارات النقدية تحصد نتائجه الليرة وأسعار المواد سلباً) وغيرها من العناوين المشابهة، وفي الختام، وعلى الرغم من صعوبة التحديات لا بد أن تحافظ جميع المصارف العاملة في سورية خلال الأزمة على حدٍ أدنى من واجبها ودورها في الاستمرار (بمستوى مقبول من المخاطرة) بتمويل المشاريع والفعاليات الاقتصادية ومنح التسهيلات ذات البعد الاجتماعي مع التنويه إلى ضرورة تعاون المؤسسات المالية والمصرفية في إحداث صناديق تمويلية مشتركة عند اللزوم، والتنسيق فيما بينها عبر إيجاد روابط تنظيمية ونقابية فاعلة.
إن الثقة بمتانة واستقرار القطاع المصرفي بشكل عام، وبأداء المصرف المركزي على وجه الخصوص تعدُّ إلى جانب عواملٍ موضوعيةٍ أخرى شرطاً لازماً من شروط تحقيق الاستقرار المالي. لأن توفر هذه الثقة هي بمثابة الشرط الآخر واللازم لتوفير عوامل الاستقرار والأمان الاقتصادي في أي دولة. أما فيما يتعلق بسياسات المصرف المركزي، وعلى رأسها السياسة النقدية فلا بد من الإشارة إلى علاقتها الجدلية بالسياسات المالية والتسليفية والاستثمارية الكلية، وإلى تأثيرها القوي المباشر وغير المباشر على سعر الصرف، وبالتالي على معدلات التضخم ومستوى الأسعار، وتأثيرها بالمحصلة على القوة الشرائية للمواطن أي على معيشته وقوته اليومي