تحاول التطمينات التي يطلقها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بين الفترة والأخرى حول سلامة الوضعين النقدي والمصرفي، التخفيف من حدة الشأزمة الاقتصادية، وتراجع معظم المؤشرات باستثناء المحافظة على نمو القطاع المصرفي، وتحسن الموجودات والملاءة لدى المصارف، وبالتالي لدى مصرف لبنان، وهذا أمر جيد يبشر بمزيد من الصمود على الصعيدين النقدي والمصرفي، لكنه لا يبشر بمعالجات اقتصادية واجتماعية قريبة في غياب الحد الأدنى من المؤسسات الحكومية والرسمية المعنية بتعزيز الثقة، وخلق فرص العمل لمواجهة النمو الكبير في معدلات البطالة.
باختصار شديد يمكن القول إن الأداء السياسي والأمني للقيادات السياسية والوزارية اللبنانية والمؤسسات الحكومية والدستورية استطاعت، عن كفاءة عالية، خسارة ثقة المستهلك والمستثمر في آن معاً، انطلاقاً من الوقائع الآتية:
1- بالنسبة للمستهلك، وهو الخاسر الأكبر، تكفي الإشارات إلى تراجع الخدمات وتزايد كلفتها، وتردي الأوضاع المعيشية والقدرة الشرائية وتزايد الأعباء نتيجة ارتفاع معدلات البطالة، وتضخم المنافسة، على كل فئات الشعب من المداخيل الصغيرة إلى ما تبقى من المداخيل المتوسطة. كذلك استطاعت الدولة بمؤسساتها وعدتها الحالية والإدارية القائمة من نشر سياسة التنفيعات، وتضخيم شعار افتداء الخلافات السياسية بالمال العام على حساب مصالح الناس وخدماتهم.
2- أما على صعيد القطاعات الاقتصادية، فإن الفشل في تأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار الأمني والسياسي الداخلي، دفع بقوة مع العناصر الإقليمية من أزمات وتوترات، باتجاه إصابة عشرات القطاعات الأساسية بالتراجع المستمر، وتهديد بعضها بالإقفال، وتشريد مئات العمّال والمستخدمين شهرياً، لا سيما بعد الضرر الكبير الذي أصاب القطاع السياحي للموسم الثالث على التوالي. من هنا كان تحرك «الهيئات الاقتصادية» ضد الفراغ الذي يزيد العجز في القطاعين العام والخاص، لا سيما في حال استمرار الفراغ الحكومي الذي من شأنه أن يشكل إشارة باتجاه الانتباه على الأقل لمطالب الناس. أما صرخة العمّال من غياب معالجات التضخم، وتأخر المنح المدرسية لأجراء القطاع الخاص، فهذا أمر آخر يقتضي وجود معالجات أخرى، وسريعة جداً لملاقاة موجة غلاء الأقساط وأسعار الكتب وضيق مجالات التوظيف.
توافق التراجع بين الخدمات والقطاعات
في إطار الحديث عن تردي الخدمات يمكن التوقف، بداية، عند أزمة الكهرباء المتزايدة، وسبل معالجتها بالسرعة الممكنة حتى لا يتفوق التقنين في الشتاء المقبل على ما شهده صيف هذا العام.
في التفصيل فإن الكهرباء تحتاج إلى زيادة الإنتاج كخطوة أولى بحوالي 350 ميغاوات، كان يفترض أن تؤمنها البواخر التركية لسد جزء من النقص الكبير الذي يتنامى بفعل الأعطال والأضرار التي تزيد عادة مع فصل الشتاء تحت حجة البرق والرعد والعواصف، كما في الصيف بسبب الحر ورياح الخماسين. هذا الواقع بات ضروريا، حتى لا يزيد التقنين عن المستوى الحاصل حالياً. وعلى سيرة الكهرباء فإن انقطاع المياه يواكب دائماً انقطاع الكهرباء، لا سيما في مواسم الأعطال، وكما حصل الأسبوع الماضي لبيروت والضواحي نتيجة تغيير قسطل معطل في منطقة عطلت السير، وزادت تقنين المياه تحت ظلام انقطاع الكهرباء. أما المحاسبة والسؤال عن الأسباب فهي عند «رب العالمين في دولة المذاهب والطوائف».
قضية أخرى تحتاج إلى تذكير دائم وهي، قضية الخدمات الصحية وتحسين التقديمات عبر الضمان الاجتماعي والمؤسسات الضامنة ووزارة الصحة، على اعتبار أن النفقات على الشأن الصحي والاجتماعي تفوق الملياري دولار سنوياً منها حوالي 800 مليون دولار فاتورة الدواء، وهو سوق يوازي سوق الولايات المتحدة من حيث عدد الأصناف المتوافرة، وتنوعها تحت شعار المنافسة غير الموجودة التي تحصل على حساب النوعية في بعض الأحيان سعياً وراء الربح الأعلى والعمولة الأكبر، هذا مع التأكيد بعد وصول القسم الأكبر من الخدمات بالشكل اللائق إلى المستفيدين والمضمونين نتيجة الهدر الإداري والمالي وغياب الأجهزة التي توصل الخدمة إلى مستحقيها من دون استغلال. إشارة إلى أن عجز الضمان الصحي ما زال قائماً مع التعويضات العائلية، وهي تُغطى حالياً، ولو بكميات أقل وخلافاً للقانون، من تعويضات المضمونين في نهاية الخدمة.
أما التضخم المتزايد فهو أمر يتعلق، وبذات الأهمية، تتعلق بقضية أسعار السلع والمحروقات والدواء والرسوم التي تتقاضاها الدولة. فأسعار البنزين تسير نحو الارتفاع، على الرغم من تراجع الضريبة على البنزين بعد تخفيض الرسوم بحوالي 5 الآف ليرة منذ العام الماضي ثم تلاشت تحت وطأة ارتفاع الأسعار.
ماذا تفعل الدولة على أبواب الشتاء؟
كذلك الأمر موضوع دعم المازوت الذي يهدد مئات العائلات على أبواب الشتاء، وهو كان يذهب في معظمه إلى مستفيدين ومحسوبيات. والسؤال: ماذا ستفعل الدولة على أبواب فصل الشتاء؟ حيث كان يصدر قرار يقضي بدعم سعر صفيحة المازوت بمبلغ 3 آلاف ليرة، تخفيفاً عن الطبقات الفقيرة، ولم تكن تصل. غير أن الوضع الراهن يختلف عن السنوات الماضية في ظل موجة النزوح السوري، وحاجة آلاف العائلات إلى المحروقات، ما يستدعي مساعدات كبيرة لتغطية الحاجات اللبنانية، ومن ثم حاجات النزوح التي تحتاج إلى مساعدات ودعم دوليين.
القضايا الاقتصادية التي تشكو تراجع المؤشرات كثيرة أبرزها تحديات تنفيذ المشاريع والاستثمارات الجديدة التي تخلق فرص عمل، وهي بيت القصيد في هذه المرحلة. أما القطاعات التجارية والسياحية المتعثرة أو هي على باب التعثر، فإن مصرف لبنان قام بخطوتين لتحريك عمليات التسليف بتخصيص حوالي 2200 مليار ليرة. كما فرض على المصارف تخصيص مبلغ 400 مليون دولار من أموالها الخاصة تدخل بموجبها في توظيفات بالقطاعات الاقتصادية وإنتاجية التقنيات ومجالات المؤسسات المتوسطة ليس عن طريق التسليف بل عن طريق المساهمة على أمل أن تعزز النمو الاقتصادي الذي سيكون متراجعاً خلال العام 2013 عن السنة الماضية والسنوات الأخرى بشكل ملحوظ.
في المحصلة لقد سجل ميزان المدفوعات حتى نهاية تموز الماضي عجزاً بلغ حوالي 957 مليون دولار بزيادة حوالي 500 مليون دولار خلال شهر واحد. وهو مؤشر أساسي على صعيد حجم الأموال المتدفقة والخارجة من لبنان والداخلة اليه.
في المقابل فإن حركة الرساميل الوافدة بلغت حتى نهاية تموز حوالي 8.959 مليارات دولار مقابل حوالي 8.789 مليارات للفترة ذاتها من العام 2012، أي بزيادة قدرها حوالي 1.9 في المئة، ما يؤشر إلى تراجع الاستثمارات الخارجية، كذلك تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج على اعتبار أن نمو الرساميل كان يسجل زيادات دورية أقلها 9 و10 في المئة، كما إنتاجية الفصل الأول أو الثلث الأول من السنة الحالية.
إن الفراغ القائم على صعيد الحكومة ومؤسسات الدولة المعزز بالفراغين الأمني والسياسي، وتراجع الخدمات وفرص الاستثمار، يكرس خسارة الدولة لثقة المستثمر والمستهلك في الداخل والخارج، ما لم يتوافر المخرج الأول بحكومة أولوياتها هموم خدمات الناس أولاً، والقطاعات الانتاجية ثانياً قبل أن تترفع وتتضخم فاتورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو أمر ما زال في المتناول بما في ذلك تعزيز فرص الاستثمار في لبنان ولو من قبل اللبنانيين والمؤسسات القائمة.
المصدر: جريدة السفير