لم يكن أحد يذكر موضوع الحوالات الخارجية الواردة إلى البلد من المغتربين في الخارج رغم دورها الأساسي في الإنفاق، سواء من المسؤولين أو المعنيين وحتى المراقبين رغم حاجتنا الملحة لكشف نقاط القوة في الاقتصاد خلال الأزمة، رغم المعاناة الشاقة والتكاليف الباهظة التي يتكبدها يومياً.
وبعد كشف الأرقام شبه الرسمية مؤخراً عن قيم الحوالات اليومية أصبح بإمكاننا البناء في التحليل الاقتصادي على أسس الإمكانات التي كانت «خفية» سابقاً في سياق الكشف عن مكامن قوة في اقتصاد اليوم.
والبداية من التصريح الذي أتى على لسان مصرفي لوكالة الأنباء الرسمية «سانا» بأن «قيمة الحوالات اليومية الواردة إلى سورية تتجاوز السبعة ملايين دولار». علماً بأن الحصول على رقم كهذا من قبل الجهات الرسمية أمر بسيط، من خلال إحصاء الحوالات الواردة في الطرق الرسمية، حيث هناك طرق أخرى نظامية وغير نظامية تدخل فيها المساعدات التي تشبه الحوالات عن طريق المسافرين مثلاً، ممن يرسلون مبالغ نقدية لأهلهم عن طريق الأصدقاء أو الأقارب القادمين إلى سورية. وغير نظامية عبر مكاتب الصرافة غير المرخصة التي ترسل وتستقبل الحوالات.
لكن بناء على مبلغ الـ7 ملايين دولار، على اعتباره الحدّ الأدنى، يمكننا إيجاد مؤشر للاستئناس عن واقع الاقتصاد من جهة سوق الصرف وموارد المصرف المركزي وتعزيز الطلب على الاستهلاك.
البداية من المركزي وسوق الصرف
إن مبلغ 7 ملايين دولار يومياً يعني أن مصرف سورية المركزي كان يرده يومياً مثل هذا المبلغ، لكون شركات الصرافة والتحويل تسلم الحوالات بالليرة السورية للمواطنين وفق سعر صرف يحدده المصرف المركزي، على أن تعيد بيع الدولار للمصرف المركزي وفق محددات وأسعار واضحة.
أي إن المصرف المركزي يؤمن أكثر من 210 ملايين دولار في الشهر، وما يزيد على 2.52 مليار دولار في العام.
وهذا يعطي إشارة واضحة عن استقرار نسبي في المركز المالي للمصرف من جهة استمرار موارد القطع الأجنبي لديه، بما يجنبه استهلاك المخزون أو الاحتياطي من العملات الأجنبية.
وهذا ما يجعله -أي المركزي- يمول المستوردات ضمن محددات وزارة الاقتصاد لأنها المانحة لإجازات الاستيراد ضمن الإمكانات المرتبطة بحجم القطع الداخل عبر الحوالات، علماً أن التمويل يدور في حدود 5 ملايين دولار يومياً في الوقت الراهن بعد ارتفاعه بشكل ملحوظ، في حين كان بحدود 2 إلى 3 ملايين دولار في أحسن الأحوال سابقا. أي إن المركزي يمول المستوردات ويفيض عنه ما يمكنه من التدخل جدياً في زيادة عرض الدولار في السوق.
طبعاً هذه الإمكانات ما زالت قائمة حتى اليوم بعد أن سمح المركز للشركات الاحتفاظ بـ20% من الحولات، أي إنه سيشتري منهم يومياً مبلغ يزيد على 6 ملايين دولار، وهو ما يزيد نحو المليون دولار يومياً عن حاجة الاستيراد وفق الشروط والمحددات الحالية.
وهذا ما يعزز من المركز المالي للمصرف المركزي من جهة التأثير على سعر الصرف، وتحديداً فرض استقرار على الأسعار في السوق. إلا أن هذه الإمكانات لا يمكنها وحدها تخفيض الدولار، إلا إذا أجيد استخدامها باتجاه التحكم بمستوى العرض في السوق، وضبط الطلب، لأن المضاربات هي المسيطرة على السوق، وهذه الإمكانات كانت متاحة أمام المركزي عندما ارتفع الدولار لفترة فوق مستوى 250 متجاوزاً مستوى 300 ليرة لأيام، قبل أن يستقر لعدة أشهر بين 145 و155 ليرة.
والمضاربات تحكمها العوامل النفسية (الجشع والخوف) التي تؤثر في قوى السوق في السوق السوداء (العرض والطلب) التي تحدد سعر الدولار، وعليه باقي أسعار صرف العملات الأجنبية، والمركزي يملك اليوم كل الإمكانات المادية من حيث المركز المالي المهم واستمرار تدفق القطع الأجنبي، لضبط الدولار عند المستوى الحقيقي الذي يعكس أثر جميع العوامل المؤثرة في سعر الصرف من اقتصادية مرتبطة بالإنتاج وحركة التجارة الخارجية، والسياسية، محيداً بذلك العوامل النفسية المرتبطة بالمضاربات.
من جيوبنا إلى خزائن الأجنبي!!
من جهة أخرى؛ تعادل الـ7 ملايين دولار التي يستلمها المواطنون بطريقة رسمية نظامية ما يتجاوز قيمته المليار ليرة سورية يومياً، أي 31.5 مليار ليرة شهرياً، و378 مليار ليرة سنوياً.
تذهب هذه المصادر الجديدة للدخل الخاص إلى الإنفاق على الاستهلاك وتسديد الإجارات وتلبية الخدمات ضمن الإمكانات المتوفرة.
أي إن الأسواق السورية تغذى يومياً بأكثر من مليار ليرة سورية فقط عبر الحوالات الخارجية، وهو رقم لا يستهان به، آخذين بالاعتبار أن الرقم الحقيقي يفوق ذلك، نسبةً إلى الأموال الداخلة بطرق غير رسمية وغير نظامية، وحتى بعد أخذنا بالحسبان انخفاض القدرة الشرائية لهذه الأموال، فالرقم بالليرات السورية بدوره تضاعف بعد احتساب أثر ارتفاع قيمة الدولار، أي إن 7 ملايين دولار يتم ضخها زيادة عن الرواتب والأجور الشهرية، وموارد الدخل الأخرى، يعتبر رقماً مهماً، وأساسياً في جعل الاستهلاك قائماً في الاقتصاد رغم ظروف الحرب، وما فرضته من حالات قسرية لترشيد الاستهلاك.
لذا يمكنك أن تجد الأسواق تعج بالبضائع، فرغم ارتفاع الأسعار، هناك من يشتري، علماً بتراجع مستوى الطلب عن مستواه قبل الأزمة. وبالتفصيل فالطلب اليوم جيد على السلع الأساسية، وضعيف على السلع الأخرى من ألبسة وغيرها.
والتحويلات الخارجية بناء على الـ7 ملايين دولار يومياً تعني 378 مليار ليرة سورية في العام، وبالمقارنة فقط، يشكل هذا الرقم نحو 8% من إجمالي الناتج المحلي التقديري يعد احتساب أثر التراجع عن مستواه الذي سجل فيه 59 مليار دولار في 2010، على أساس تراجع إلى حدود 31 مليار دولار تقريباً.
يحمل هذا الكلام طابعاً تفاؤلياً، لكنه حقيقي، وهذا سبب من أسباب استمرار جزء من الحياة الاقتصادية بشكل طبيعي، رغم الحرب، لكن هذا لا ينفي وجود فرص ضائعة تفوتنا بسهولة.
فالطلب اليومي يذهب جلّه باتجاه المستوردات، أي إن دخل السوريين يخرج من جيوبهم ليصب في خزائن الأجنبي بسهولة، وحتى الحوالات الشخصية التي ترد إلى المواطنين من الخارج لدعمهم ومساعدتهم على الحفاظ على مستواهم المعيشي في ظل الظروف الراهنة، تعود وتخرج من جديد -جزء مهم منها- من قناة الإنفاق على المستوردات..!!
وهذا ما يجب على الحكومة الانتباه إليه، والتعامل معه بشكل جدي وحاسم، فكما التاجر له دور مهم، كذلك الصناعي، بل لعل الأولوية للصناعي في ظل الأزمة، الذي يمكنه تلبية الطلب المحلي والتخفيف من هدر الدخل في قناة الاستيراد، ما يعزز إمكانات الاقتصاد بدرجات أعلى من الحالية، وهذا ممكن وليس مستحيلاً، لكنه يتطلب عناية فائقة وإعطاءه أولوية متقدمة، على أرض الواقع، وليس على الورق ومن خلال التصريحات الإعلامية.
المصدر: صحيفة الوطن