الموازنة العامة للدولة هي الخطة المالية والأداة الرئيسية لتنفيذ أهداف خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلد خلال سنة محددة، من خلال التخصيص الأمثل للواردات الحكومية على المشاريع والأهداف المعتمدة في الخطط التنموية، ومن المعروف بأنه لا دولة لديها قدرة على الحصول على الموارد الكافية لتلبية احتياجاتها كافة، لذلك تأتي عملية المفاضلة بين الأولويات المختلفة.
اليوم ورغم الحرب التي دخلت عامها الرابع، تصدر الحكومة السورية الموازنة العامة للدولة لعام 2015 في موعدها المعتاد حسب الدستور، وتبلغ 1554 مليار ليرة سورية، أي ما يعادل 8.4 مليار دولار (بحسب السعر الرسمي للمصرف المركزي) وعلى حين بلغ الإنفاق الجاري 1144 مليار ليرة فقد سجل الإنفاق الاستثماري 410 مليارات، أي ما نسبته 26.4%، مع ملاحظة أن الدعم في هذه الموازنة بلغ 983 مليار ل. س أي بنسبة 63% من مبلغها الإجمالي بشقيها الجاري والاستثماري، وقد كانت موازنة 2012 هي الأولى التي تم إعدادها في ظل الأزمة، وبلغت 1383 مليار ل. س وهو ما يعادل 20.7 مليار دولار.
وتسببت الأزمة بخسائر للاقتصاد حرمت الموازنة السورية من نسب كبيرة من إيراداتها، التي وإن سجلت نمواً رقمياً بالليرات السورية، حيث ارتفعت بين عامي 2012 و2015 من 1383 إلى 1554 مليار ل. س، ولكن إذا أخذنا هذه المبالغ بالعملات الأجنبية، فإن إجمالي الموازنة انخفض من 20.5 مليار دولار في عام 2012 إلى 8.4 مليارات دولار لهذا العام، أي بنسبة 58.6%، وإضافة إلى العوامل التي سببتها الحرب يمكن أن يعزى هذا الانخفاض للنقاط التالية:
• الإبقاء على النظام الضريبي كما هو، برغم الفجوات والنقاط السلبية التي تعتريه، حيث ألغيت العديد من الضرائب النوعية في أعوام سابقة.
• لم يتم البحث جدياً عن موارد جديدة للدولة، لدعم الاقتصاد المنهك نتيجة هذه الحرب، إذ لا يمكن لأي دولة في العالم أن تخوض حرباً شرسة لأربع سنوات، وتستطيع الحفاظ على عجلة اقتصادها ومواردها، حيث إن التفكير بشكل نمطي وتقليدي، هو سمة أيام الرخاء، وليس الحرب.
• التهرب الضريبي، الذي ازداد وتعمق بشكل كبير نتيجة للفوضى في الكثير من الأماكن الساخنة وفساد بعض مراقبي التكليف والعاملين في الدوائر المالية والضريبية.
من المعروف أن الموازنة التقشفية في أي بلد، هي وصفة مضمونة للركود الاقتصادي وفقدان الوظائف وفرص العمل وتعميق الفقر، ولجعل البلد يدور في الدائرة المغلقة حيث يجر الفقر فقراً أسوأ لعموم المواطنين، وهي فاتورة باهظة جداً يدفع قيمتها الفقراء، وهنا يبرز السؤال التقليدي: ماذا بوسع الحكومة عموماً ووزارة المالية وخصوصاً أن تفعل لتخفيف آثار وارتدادات هذه الحرب على الحياة الاقتصادية؟
هنا يمكن الإشارة إلى عدد من الملفات، أهمها:
1- إنجاز دراسة معمقة لتطوير النظام الضريبي، وإعادة هندسته بما يلبي الاعتبارات المنوه إليها سابقاً، ولا سيما الحاجة الماسة إلى الموارد، والاتجاه لتحقيق العدالة الضريبية التي تستخدم كأحد أدوات تحقيق العدالة الاجتماعية (هذا ما أكده رئيس مجلس الوزراء).
2- دراسة جديدة للاتفاقيات التجارية الدولية، التي تؤثر سلباً في واردات الدولة من الرسوم الجمركية، وخصوصاً اتفاقية التجارة العربية الحرة، ورفع نسب الرسوم الجمركية على المواد والسلع غير الضرورية ولا سيما تلك التي يتوفر بدائلها من خلال الصناعة المحلية.
3- مكافحة فساد موظفي الدوائر المالية وإحكام الرقابة على مراقبي التكاليف والجباة الذين يتهاونون بشأن المال العام.
4- إعادة النظر في إدارة الأملاك والأصول الحكومية، لتدار بطريقة أكثر كفاءة ونزاهة، حيث يمكنها أن تدر الكثير من الموارد إذا تمت إدارتها بعقل منفتح على الأفكار الخلاقة.
إن أي معالجة لتدني القيم الحقيقية للموازنة السورية، يجب أن تعمل على رفع الإيرادات من جهة وضبط الإنفاق ومكافحة الهدر وتقليل الخسائر من جهة أخرى بمعنى رفع كفاءة الإنفاق الحكومي، وليس التقشف، وهذا يجب أن يشمل ملفين غاية في الأهمية:
الأول: معالجة واقع القطاع العام الصناعي، لما يشكله من مصدر للنزيف الحاد في إيرادات الدولة، فحسب تقرير للجهاز المركزي للرقابة المالية، فقد بلغت إجمالي خسائره في خمس سنوات 1756 مليار ل. س.
الثاني: ترشيد أو عقلنة الدعم، وهذا الملف يحتاج إلى قرار حاسم بالانتقال إلى الدعم الاستهدافي، إما بشكل جغرافي، وإما بشكل قطاعي.. أو بطرق أخرى، وعلى سبيل المثال، أن الدعم الذي تقدمه الدولة للصناعيين يقدر بالمليارات ولا ينعكس على أسعار السلع وخصوصاً المستهلكة من شرائح المواطنين الأقل دخلاً، لذلك يجب تطبيق القاعدة البسيطة التي تقول: «إن السلع التي تباع بشكل حر وحسب السعر العالمي، يجب ألا تحظى بدعم حكومي في تصنيعها سواء بالمشتقات النفطية أم الكهرباء».
أخيراً، إن الحال الصعبة للموازنة اليوم تشير بوضوح إلى الحاجة الملحة لجهود حكومية ومجتمعية كبيرة، لإصلاح وتعزيز كل ما يؤدي إلى وضع أفضل لها، لأنها تساهم بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي، والحلول ليست وصفة سهلة بل مجموعة مركبة من الإجراءات الحازمة والجادة، حيث لم يعد الوضع الاقتصادي يتحمل المزيد من التردد أو التأجيل.