كثيرة هي الأزمات التي يعيشها السوريون، فهي تبدأ بتأمين لقمة العيش والمسكن، مروراً بأزمات البحث عن فرص عمل والراتب المنخفض، لكن هذه الأزمات كانت مترافقة مع ارتفاع ملحوظ بنسبة الأطفال المولودين خلال السنوات الماضية وغياب الوعي والقدرة لدى الأهل على تحمّل مسؤولياتهم تجاه أطفالهم.
صحيفة "البعث" المحلية ، أشارت في تقرير لها أنه بالرغم من الجهود المبذولة من قبل الجهات المعنية لتنظيم عمليات الإنجاب غير المرغوب به وصيحات التوعية للأمهات من خطورة الولادات المتكررة. إلّا أن شيئاً لم يتغيّر، بل على العكس لا زال مشهد أفواج الأطفال ضمن العائلة الواحدة يتكرّر بشكل يومي أمام أعيننا وسط ندب الأهالي للغلاء واستحالة تعليمهم والصرف عليهم. الأمر الذي يخلق عشرات إشارات الاستفهام حول الأسباب والدوافع لتجنّب الكثير من الأسر "تنظيم النسل" في ظل الظروف المعيشية الصعبة؟.
وبحسب الصحيفة فإن رؤية عشرات الأطفال المتسربين من المدارس على مدى السنوات الأخيرة على مرأى الجهات المعنّية "ليعتاشوا" من مهن مختلفة تمّ زجّهم فيها للمساعدة في مصروف المنزل من جهة. وكون ثقة الأهالي بالشهادات التعليمية معدومة وسط البطالة المستشرية وسوق العمل الخاوية من محتواها، يستدعي التحرك الفعلي والخروج من دائرة التنظير والندوات والورشات الاستعراضية.
تقرير الصحيفة أكد فشل تلك الندوات في جذب الأسرة السورية لفكرة تنظيم النسل وتجنّب الآثار السلبية المستقبلية لجيل قادم لم يتلقَ حصته الكاملة من التعليم والتربية والتغذية وغيرها من الحقوق المسلوبة، نتيجة الحرب التي عانى منها ذووهم الفاقدين للكثير من الوعي والقدرة على تنظيم أُسرهم وترك أطفالهم بين أزقة الشوارع في مهن وورشات لا تتحملها أجسادهم الصغيرة. ولاسيّما في مناطق السكن غير المنظم الذي لا يصله صدى القرارات الخارجة من تلك الورشات الهادفة لتنظيم لنسلهم.
من جهتها، الدكتورة يسرى سليمان (علم اجتماع) بدأت حديثها مع الصحيفة بتقسيم المجتمع السوري من ناحية البنية السكانية إلى قسمين. الأول يتسم بالعقلانية والوعي الكافي لفكرة إنجاب طفل بناءً على تخطيط مسبق يبدأ بتأمين المسكن والمأكل والدواء والتعليم وكافة حقوقه، وينتهي بتأمين مستقبله ليكون عنصراً فاعلاً في المجتمع "الأحوج" حالياً إلى تركيبة سكانية متعلمة وقادرة على العطاء وبنائه من جديد.
وهذه الشريحة الواعية -برأي سليمان- ما زالت قليلة.في حين الشريحة الغالبة في مجتمعنا هي اللاعقلانية والتي تتمسّك بفكرة الإنجاب بشكل مخيف تحت حجج اجتماعية من جهة وشرعية من منحى آخر. ففقدان الكثير من الأسر لأبنائهم والتغيير الكبير في الهرم السكاني خلال العشر سنوات الماضية من هجرة وفقدان جعل تفكير الكثيرين يذهب باتجاه الإنجاب كتعويض للخسائر البشرية. الأمر الذي سيقودنا حتماً في حال عدم ضبطها إلى أزمات بنيوية جديدة.
ودعت سليمان إلى ضرورة الإشارة خلال الجلسات التي تقيمها هيئات تنظيم الأسرة وشؤون الأسرة إلى الجانب الديني الذي أجاز تنظيم النسل. أما تحديده فقد حرّمه شرعاً، وعدم التفريق بين المصطلحين قادنا سابقاً إلى خلل في التركيبة السكانية. لكن عزوف الكثير من الشباب عن الزواج خلال السنوات الأخيرة لارتفاع تكاليف الزواج والمعيشة سيحدّ من الإنجاب بشكل أو بآخر.
وبالتالي سينعكس بشكل سلبي من جديد على التركيبة السكانية بمنحى مغاير، وهذا ما يستدعي النظر به ومعالجته بتشجيع هذه الفئة على الزواج وفتح سوق العمل أمامهم بدلاً من هجرتهم وخسارة البلد لهم، بحسب الصحيفة.
ولا يكمن الحلّ برأي الدكتور حيدر عباس عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية لتعويض الفاقد البشري الناتج عن الحرب (هجرة- وفيات) بالإنجاب العشوائي الذي نلحظه في مناطق معينة تشهد زيادة في نسبة الولادات قبيل الحرب استناداً إلى العادات والتقاليد الخاصّة بمنطقتهم. ولم تقف الحرب عائقاً بوجه زيادة الولادات، ولاسيّما مع النزوح والفقر والظروف المعيشية السيئة، بل على العكس استمرت زيادة الولادات لكن في المناطق التي نزحوا إليها.
ولفت عباس إلى أن المقررات التي يقدّمها المعهد تتضمن الكثير من الفصول المختصة بالبحث في شؤون الأسرة والصحة الإنجابية للمرأةد كذلك يتمّ إقامة العديد من الورشات المتعلقة بالقضايا الاجتماعية. وأبرز المشكلات الاجتماعية في سورية بعد الحرب، للخروج بتوصيات ومقترحات يُؤخذ بها في ردم الفجوات التي طفت على السطح خلال العامين الأخيرين.
في المقابل وجدت الدكتورة سمر علي (محاضرة في معهد البحوث السكانية) أن محافظات طرطوس والسويداء واللاذقية شهدت انخفاضاً في نسبة المواليد الجدد. فيما ارتفعت نسبة هذه الولادات في إدلب وحلب وحماة خلال الخمس سنوات السابقة.
ولفتت إلى أن انخفاض الولادات مردّه إلى الحرب وما تبعها من صعوبة تأمين العيش، أما المحافظات التي يعتمد اقتصادها على الزراعة فما زالت أسرها مستمرة بالإنجاب رغم ضعف القوة الشرائية من منطلق تأمين يد عاملة كسند للأسرة للعمل بالأرض في المستقبل القريب.
وأشارت علي إلى بعض الخطوات التي تمّ اتخاذها في طريق تنظيم النسل، لعلّ أبرزها تحديد إجازات الأمومة للمرأة العاملة وحصرها لثلاثة أبناء فقط. ناهيك عن المحاضرات والكُتيبات حول مخاطر تعدّد الإنجاب على صحة الأم والهادفة أخيراً إلى تنظيم النسل. ويتمّ توزيعها على الأمهات من قبل الجمعيات والمنظمات الأهلية التي تُعنى بصحة الأم والطفل.