صُدم السوريون من قرار الحكومة رفع أسعار المحروقات، إذ سقط القرار عليهم كالفاجعة، وظهرت ردود أفعالهم الساخطة، التي عبروا عنها بصدق، نظراً للضرر الكبير الذي لحق بهم بسبب هذا القرار الظالم، الذي سيقود اتجاهاً صاعداً ومخيفاً بالأسعار وكُلَف الإنتاج. وبدلاً من ردم الحكومة للفجوة المتسعة بين الأجور المنخفضة والنفقات الدائمة الارتفاع، والحد من الاحتكار، وكبح جماح الغلاء، سدّدت الحكومة آخر سهامها القاتلة إلى صدور المهمّشين والضعفاء اقتصادياً، ورمتهم بأعتى أنواع القرارات، التي تبدّد ما تبقى لهم من أمل في تحسين وضعهم المعيشي. وربما ختمت هذه الحكومة حقبتها غير المُرضية شعبياً، بقرار مسّ لقمة العيش المغمّسة بالدم والعرق، وزادت من أعباء المنتجين، ووقفت ضد 80% من الشعب السوري، من الذين انزلقوا إلى قاع الفقر العميق، والأخطر أنها رسخت الجنوح الرسمي نحو الليبرالية المتوحشة، وهو امتداد لمواقف الحكومات السابقة، وانزلاق جديد في هذه السياقات.
و يعدّ رفض القرار شعبياً، وتوافق كتل حزبية وسياسية ونقابية، على الوقوف ضدّه، أكبر مؤشر على الخطأ الكبير الذي وقعت فيه حكومة وائل الحلقي، التي ظلّت مصرّة بشكل منقطع النظير، على الانحياز إلى الطبقات الميسورة، وإدارة ظهرها للفقراء. واستندت الحكومة إلى المنطق التبريري الفاشل، وحاولت أن ترتق الجرح العميق الذي أحدثه القرار الظالم، لكن السيف سبق العذل، وتحطمت طموحات الناس، المتمثلة في تصويب المسار الاقتصادي العام للبلاد، وإعادة النظر بالارتجال الذي وسم أداء حكومة الحلقي اقتصادياً، والتفكير بطرق جدية لتخفيف حدّة الأزمة عن شرفاء الوطن، لاسيما الطبقات الفقيرة والمعوزة. يعكس ملفّ المحروقات فشل حكومة الحلقي اقتصادياً، كما أنه البيان المبين، على عدم صدقها، وغياب الشفافية عن تعاملها مع المواطن، و تعرية موقفها غير الصحيح من سعر الصرف، وهي القضية الشائكة التي تختزل قصة حكومة الحلقي مع اقتصاد البلاد، وتدهوره، وتوقف الإنتاج، وتعمُّق الاحتكار، وتغلغل الفساد، ومحاربة الكفاءات الوطنية.
تسلمت حكومة الحلقي الأولى البلاد في آب ،2012 وسعر الصرف رسمياً لم يتجاوز 100 ليرة أمام الدولار، فيما الحرب في سورية أخذت شكلها الرهيب، وسقطت أوراق التوت عن كل الوجوه التي ساهمت بتجويع الشعب السوري، من خلال الاستهداف الممنهج للاقتصاد والعملية الانتاجية، تدميراً وسرقةً وفساداً على حد سواء.
و ساهمت حكومتا الحلقي، بشكل مؤسف، في تعطيل الإنتاج، وعدم دعم المنتجين، واكتفت بممارسة دور المتلقي السلبي، لكل ما يجري. فكانت قراراتها سلحفاتية الطابع، ونهجها مُحابٍ للأغنياء، وموقفها داعم لشريحة ضيقة من المستحوذين والمحتكرين، الذين وزعت عليهم الصفقات والعطاءات، وشهادات الوطنية في آن.
قصة حكومتَي الحلقي مع سعر الصرف، هي الميزان العادل الذي يمكن محاسبتهما عليه، لا لتقييم مدى نجاحهما أو فشلهما، بل للتعرف على غرقهما المقصود في الفشل، وانهيار إجراءاتهما المتأخرة لسد الفجوة بين المطلوب والمتخذ، وبين الممكن والمتاح. وكان من الطبيعي، أن تختم الحكومة الثانية للحلقي أيامها المعدودات المتبقية، بقرار خطير يسهم في انقسام طبقي حاد، وأن تغادرنا وسعر صرف الليرة في تخوم 490 أمام القطع الأجنبي.
إن سعر صرف الليرة، والفساد الذي يتبطن هذا الملف، يختزل الفشل الحكومي في المحافظة على الاقتصاد في السنوات الخمس الماضية، نتيجة القرارات التي اتخذتها الحكومة في هذا الخصوص، والتي ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الفساد المغمور، بينما جذوره ضاربة في عمق المؤسسات. إن حكومة لم تدعم المنتجين، فلاحين وصناعيين وحرفيين، بالتأكيد لن تتمكن من الإمساك بزمام المبادرة، والتقاط أنفاس الليرة المتهاوية أسعارها. والحكومة التي أمضت وقتها الطويل في الدراسات والبحث في السبل، دون التقدم قيد أنملة لمواجهة التحديات، لن تتفرغ كلياً لإدارة موضوع سعر الصرف جدياً، بينما ما وراء الأكمة الكثير.
ستسلم حكومة الحلقي المسؤولية إلى حكومة قادمة، كما ينص الدستور، وهي الحكومة التي فرّطت بالأمانة، وقادت البلاد اقتصادياً إلى الهاوية. وسيغادر وزراؤها وخلفهم تركة ثقيلة جداً، وسيتركون ملفات كبرى بحاجة إلى جرأة غير مسبوقة لمعالجتها.
وستظهر خلال الفترة اللاحقة لتشكيل الحكومة العتيدة، الكوارث الاقتصادية والانسانية التي سببتها قرارات حكومة الحلقي حيناً، وعدم اتخاذها القرارات حيناً آخر. نحاول البحث عن أعذار لحكومة الحلقي، لتوديعها بسلام، لكن جميع الحجج والتبريرات تسقط أمام الأداء المتردي لها، ويكفي أنها استلمت مهامها وليرتنا قوية، وتغادرنا وليرتنا في أسوأ حال، للدلالة على فشلها الاقتصادي. وما يحزننا ليس فشل حكومتي الحلقي اقتصادياً، إنما الضياع الاقتصادي الذي سببته، والهدر الثمين للوقت، وترسيخ الرغبة في اعتبار اقتصاد سورية (كعكة)، يجب أن يذهب ريعها لقلّة من المتنفذين والتجار والمحتكرين.
“جريدة النور”