بعد الجلاء كان استقلال القرار السياسي والسيادة الوطنية للجمهورية العربية السورية مدخلاً لبناء دولة متطورة على جميع الأصعدة والمجالات ومنها المجال الاقتصادي، فكان استقلال النقد السوري وتحرره من قيود الاستعمار الفرنسي الإنجاز الأكبر على صعيد رسم الخارطة الاقتصادية السورية، فكثيرة هي الأوراق المالية التي تضمنتها دراسات وأبحاث رصدت مسيرة العملة الوطنية في مراحل ما قبل الجلاء وإلى سنوات ما بعده.
حيث رصدت صحيفة "تشرين" اليوم مسيرة العملة السورية منذ العام 1919، بعد الاطلاع على الدراسات، كانت النتيجة قراءة واقعية لمسيرة النقد السوري عبر سنوات عدة، فبعد وضع سورية ولبنان تحت سلطة الانتداب الفرنسي ألغى المفوض السامي التعامل بالجنيه المصري الذي كان سائداً إبان حكم الإمبراطورية العثمانية، وأمر بالتعامل بالورق النقدي السوري- اللبناني، حيث ارتأت فرنسا حينذاك تأسيس مصرف تحت اسم «مصرف سورية ولبنان» أخذ على عاتقه إصدار عملة موحدة للمناطق الخاضعة لسلطة الانتداب، وفي عام 1919 صدرت الليرة السورية لأول مرة، وكانت قيمتها تعادل 20 فرنكاً فرنسياً، وبعدها أصدر البنك السوري العملة الورقية من فئات عدة وبقيت قيد التداول حتى عام 1924، حيث تغير اسم «البنك السوري» ليصبح «بنك سورية ولبنان الكبير» وفي عام 1939 تغير الاسم مرة أخرى ليصبح «بنك سورية ولبنان».
وفي عام 1941 ارتبطت الليرة السورية بالجنيه الإسترليني إبان سيطرة البريطانيين وقوات فرنسا الحرة على سورية، وكان الجنيه الواحد يعادل 8.83 ليرات وذلك استنادا لمعدل التحويل بين الإسترليني والفرنك قبل الحرب، إلى أن جاء يوم الاستقلال عام 1946 فانهارت قيمة الفرنك الفرنسي فارتفع معدل التحويل بين العملتين ليصل مرة إلى 1 ليرة = 54.35 فرنكاً، فانفصلت الليرة السورية عن الليرة اللبنانية عام 1948 أي بعد سنة على اعتماد الدولار الأمريكي مقابل الليرة السورية وكان التحويل 1 دولار = 2.19 ليرة إلى أن جاء عام 1949 إذ حصلت سورية على استقلالها النقدي بفضل الإرادة السورية آنذاك بأن تكون لها سياستها النقدية الخاصة، فأصدرت عملة ورقية من الفئات الصغيرة 5 – 10 – 25 – 50 قرشا تحمل اسم «الجمهورية السورية» حيث بقيت في التداول حتى عام 1949.
ومرت الفترة الممتدة بين عام 1949 و1953باتفاقيات عديدة بشأن تحديد معدل الليرة السورية والليرة اللبنانية، إلى أن تم استقلال سورية اقتصادياً عن فرنسا 1953 حيث استمرت مؤسسة النقد السوري التابعة لوزارة المال بإصدار أوراق نقدية حتى عام 1955 إلى أن أنشأ مصرف سورية المركزي الذي يحق له إصدار النقد السوري وتسمية حاكم المصرف ومديره وإحداث مجلس للنقد والتسليف بالتعاون مع مصرف بلجيكا الوطني بخبرائه ومستشاريه تحت إدارة مصرف سورية، وفي عام 1956 تبلورت مؤسسة مصرف سورية المركزي ورُفع علم سورية فوق بناء المصرف لأول مرة، واستقلت المؤسسة بأحكامها وقراراتها كاستعمال شعار الدولة وتوقيع وزير المال وحاكم المصرف على النقد الورقي، كما مارست هذه المؤسسة صلاحياتها بتحديد شكل العملة الورقية ولونها ورسومها وقياساتها وطريقة طرحها للتداول.
فكان الإصدار الأول عام 1957 لفئات نقدية مختلفة، وقد كُتب بدلا من الفرنسية على الوجه الآخر للورقة النقدية ما كتب على الوجه الأول ولكن باللغة الإنكليزية، وطرأ العديد من التعديلات فيما يتعلق بالشكل والمضمون والحجم والرسوم، والمتمعن بالنقود السورية يرى أنها ما شهدته مآسي ألحقها الاستعمار بالشعب السوري ومقدرات بلاده، حيث تحدثنا عملتنا دائماً بالتاريخ من خلال الرسوم والأوابد التاريخية التي تضمنها التصميم المتميز للأوراق النقدية السورية.
وبعد تلك المسيرة الحافلة بالمتغيرات والتطورات، صدرت بعد ذلك العديد من القوانين والتشريعات التي سهلت العمل المصرفي مروراً لتاريخ اليوم، ومنحت تسهيلات عديدة للمصارف العامة لتقدم خدمات مميزة للمواطنين، كذلك شرعت الأبواب أمام المصارف الخاصة بشقيها " التقليدي والاسلامي " الذي وصل عددها لغاية 14 مصرفاً، وأدخلت شركات التأمين للدخول إلى سورية وتطوير سوقها المصرفي، وكما جابهت سورية منذ الاستقلال وما قبل الاستقلال للوصول إلى سيادة نقدية واستقلال اقتصادي كامل، ما تزال تجابه اليوم لردع من يحاول تدمير سنوات من التطور والتقدم الاقتصادي، بل تجابه أكثر محاولات المتآمرين على إضعاف هيبة الليرة السورية في السوق المصرفي العالمي.