ليست المرة الأولى التي يعرض فيها المصرف المركزي، في جلسة بيع علنية للقطع الأجنبي، بيع الدولار لشركات الصرافة ومكاتبها، وتمتنع كل الشركات عن الشراء، فقبل فترة وجيزة تكررت حالة كهذه، وسط دهشة الناس الذين كانوا ينتظرون جلسات البيع المذكورة، ليحصلوا على الدولار بسعر مناسب يحقق لهم أرباحاً. ومع تكرار هذه الحالة لابد من التساؤل ماذا جرى حتى لا تشتري شركات الصرافة الدولار، وتبيعه في السوق، وتحقق ربحاً؟ فقبل فترة وجيزة كان الدولار في السوق المحلية، سيداً، أشبه بالفرعون، وجميع المضاربين يرضخون لمشيئته، وكل التجار يحسبون مستورداتهم على أساسه، وكل تجارة سورية الداخلية فضلاً عن الخارجية، خاضعة لهذا الدولار، حتى إننا وصلنا إلى مرحلة ناقشنا فيها مخاطر الدولرة، في قفزة غير محسوبة العواقب، لكثرة المتعاملين بالدولار، وفرضهم هذا النوع أو الأسلوب من التعامل المالي حتى في تجارة المفرق. ماذا تغير حتى يتحول الدولار إلى عملة غير مرغوب فيها؟ وماذا حصل حتى يتجاهل الناس التذبذبات الكبيرة في سعر الصرف ومدى انعكاسها على الأسعار المحلية؟ وما القرار المهم اقتصادياً الذي دفع الليرة إلى أن تتحسن، ويتخلى القطع الأجنبي عن الاتجاه التصاعدي أمامها؟ وهل ليرتنا بخير، وقوية، ومتينة، ومستقرة، ليظهر انتعاشها بشكل مفاجئ؟
ثمة قاعدة اقتصادية معروفة، مفادها، أن الصعود المفاجئ لسعر الصرف سيقابله حتماً هبوط مفاجئ، وفي كلتا الحالتين، هناك مستفيدون وخاسرون من حالة التذبذب السريعة، لاسيما صغار المدخرين الذين لا خبرة كافية لديهم تقيهم من مخاطر التقلبات الكبيرة في أسعار الصرف، ولايملكون المؤشرات التي تضع أمامهم حقيقة ما يجري في هذه الأسواق. لكن هذه القاعدة لايمكن تطبيقها على الحالة السورية، نظراً للظرف الاستثنائي الذي تمر به، وارتباط سعر الصرف بالحالة النفسية، وبعوامل غير اقتصادية أو نقدية. لكن اتساع مروحة المضاربين، تتصدر الأسباب التي جعلت من سعر الصرف غير ثابت، وتواطؤ هؤلاء مع كثيرين دفع بأسعار الصرف إلى مستويات غير مسبوقة، وهدد بانهيار الليرة. ورغم انتقادنا الحاد للإجراءات التي من المفترض أن يتخذها مصرف سورية المركزي، كنا نتمنى أن يتدخل المركزي بقوة، ويحاول ممارسة دور مهم، تحسباً للحظة مماثلة لما يجري الآن من تراجع في سعر الصرف، الأمر الذي يتطلب تفسيراً وتحليلات معمقة. إلا أن تراجع أسعار الصرف، واستعادة الليرة لجزء من عافيتها، أثار التساؤلات، وأتت التفسيرات الحكومية، عامة، وبلا عمق، وتغيب عنها الإجابات الحقيقية التي يبحث عنها أي مواطن ليفهم ماذا حصل؟ قبل فترة وجيزة كثفت وزارة الداخلية بالتعاون مع مصرف سوية المركزي الجهود المبذولة لضبط إيقاع سوق الصرف، إذ ألقي القبض على عدد من الصرافين، وأغلقت مكاتب وشركات صرافة، وكانت الاعترافات التي يدلي بها المتهمون مثيرة للشفقة، لأن الأسئلة وُجِّهت لصغار العاملين في شركات الصرافة ومكاتبها، وتجاهلت أصحابها، وكبار عامليها، الذين توجه إليهم عادة أصابع الاتهام بالدرجة الأولى. وتشير تسريبات جديدة إلى أن أحد أصحاب شركات الصرافة المتهمين أخلي سبيله، هكذا أتت المعلومات، مقتضبة، بلا تفسير، ودون صك البراءة، و طويت التهم الموجهة إليه. وفي عود على بدء، يبدو أن استقرار سعر الصرف، الذي كان مطلباً شعبياً، أتى مفاجئاً، وبالتالي ثمة تخوف جديد من أن يعاود الدولار ارتفاعه أمام الليرة، بناء على القاعدة الاقتصادية الآنفة الذكر، بدليل وصوله إلى نحو 123 ليرة ومن ثم صعوده إلى 150 ليرة. ورغم أن كل القرارات التي اتخذها المركزي أثارت إشكاليات جديدة، وخلقت مشكلات متنوعة، فإن تراجع سعر الصرف بهذه السرعة يستثني المركزي وقراراته من جملة الأسباب التي قد توضع في سلة تبرير ما جرى، بل إن الإدانات لبعض كبار موظفي المركزي، تخلق مشكلة جديدة بحد ذاتها، تنعكس سلباً على سعر الصرف. ببساطة، لم يتغير شيء على صعيد القرارات الاقتصادية، والنقدية، ولم تضع الأزمة أوزارها، ولايلوح في الأفق انفراج كفيل بتحسين سعر صرف الليرة أمام الدولار، ومع ذلك يبقى سعر الصرف مادة دسمة لمن يريد تبييض وجه الحكومة. أما ما يمكن تفسيره وسط هذه المعمعة النقدية، والفوضى في سوق الصرف، فهو دور العامل النفسي الناجم عن محاسبة كل من يتعامل بالدولار، وتدخّل الجهات المختصة في متابعة ومراقبة عمليات التحويل والصرافة، وهذا دفع متعاملين يوميين بسوق الصرافة، إلى ترك مهنتهم، وإخلاء مكانهم، كما أتت الإغلاقات لمعظم الشركات ومكاتب الصرافة، لاسيما بعضها التي كانت تستحوذ على الحصة الأكبر من السوق، قبل تنظيم هذه السوق وشرعنتها وبعد هذه المرحلة، فكانت الإشارة واضحة وصريحة، بأن كل من يتعامل بالدولار بشكل من الأشكال سيكون تحت المساءلة. إنها قوة القرارات الإدارية، وسرعة تطبيقها، ما أدى إلى استقرار سعر الصرف، لكن التجربة تؤكد أن عمر هذه القرارات وتطبيقها على المدى البعيد مسألة غير ممكنة، وهذا ربما يفسر أيضاً عودة الدولار للصعود مرة جديدة، في الوقت الذي أدى استمرار حملة الاعتقال والقبض على عاملين في شركات جديدة مخالفة إلى تحسين سعر الصرف مؤقتاً.
المصدر: جريدة النور / تامر قرقوط/