يتفق الجميع على حب إن لم نقل عشق الوطن. قد يعود ذلك إلى ذكريات الطفولة والشباب التي تنحت في ذهننا شكلاً قدسياً للوطن نرفض النقاش في مدى روعته. وقد شاءت الأقدار أن يكون لمعظم الشعوب عبر التاريخ «فرص» اختبار جميع أنواع التجارب، ولكن نادراً ما جرت مراكمة حقيقية تفيد في الفرص المتتالية. وليست المشكلة في معرفة المسؤول عن كبوات الشعوب في أي مرحلة، فالتاريخ والمجتمع كفيلان بتمييع المسؤوليات.
وقد أثبت التاريخ أنه كلما بلغ سيل المعاناة الزبى تتحرك الجموع في شحنات شديدة. وغالبا ما يتم تأريض تلك الشحنات بعدد قد يقل أو يكثر من الضحايا (القرابين) قبل أن يمل المعنيون من عبثية القتل المجاني؛ فيلعبون مسرحية الوعي والمصالحات مع شعار «عفا الله عما مضى». ونادراً ما يستفاد من تلك الشحنات لتكون قوى دفع حقيقي لتحقيق قفزات تنموية للمصلحة العامة (يستلزم ذلك توافر الرؤية المناسبة من الكوادر المناسبة في الزمن المناسب).
تتميز منطقتنا بانفعالية غريبة تجعل البعض يعتقدون أن مواقفهم من الصحة بما يكفي لإلغاء الآخر المعارض (بغض النظر عن اتجاهه). وهم بذلك يبزون بالتطرف فوكوياما الذي اعتبر نموذج دولته النموذج الأسمى والأصلح حتى نهاية التاريخ. وعندما يمضي الشخص عشرات السنين في صقل أفكاره من بيئة وقراءات قد تتناقض معنا (الـ«نا» تعود للقارئ) فإننا نغالي عندما نطلب منه تغييرها بسويعات (لمجرد إيماننا الأرعن بالصوابية المطلقة لأفكارنا).
بما أن أزمة الهوية لم تعد إقليمية بل عالمية، أعتقد أن «مريدي» مختلف التيارات لا بد أن يتمكنوا يوما ما من العثور على ما يكفي من الوقت والكوادر اللازمة لبلورة رؤى مناسبة للأسئلة الحقيقية. فالدول في دورات تطورها نادراً ما تخرج عن سلوك «سيزيف» صعوداً وهبوطاً.
ويمكن تشبيهها في كدها للصعود والارتقاء بمتسلقي الجبال على الجروف الصخرية. فهم بحكم مصيرهم المشترك بمسيرة الصعود يترابطون بعضهم ببعض بحبل مشترك. المشكلة تكمن في سلوك تياراتهم المختلفة بين خبراء حقيقيين ومهتمين بالجميع وخبراء متململين من بطء وعدم دراية الركب ومتسلقين ملتزمين بالتعليمات (وضع أدوات الأمان والتطلع للأعلى) وآخرين وجدوا في الفريق «صدفة» ويجرّون للأعلى عنوة، وربطوا عنوة بالحبل، ويتطلعون إلى الأسفل طوال المسيرة حنيناً للماضي.. مع كل صعود أعلى يزداد مفعول قوانين الثقالة (التي خلقت الكائنات الحية للتمرد عليها ولا تستكين لها إلا عندما تفقد صفة «الحياء») ويصبح رافضو الصعود للأعلى عبئاً مرهقاً. وسقوط أي منهم (عن قصد أم لا) في أي لحظة حرجة سيسبب سقوطاً جماعياً (خاصة إن كان المتطلعون للأسفل كثراً). وهذا ما يستدعي «حلولاً» يفضل أن تكون وقائية لا علاجية، على أمل أن يكون الصعود المقبل أفضل من حيث التخطيط والاستعدادات. وبما أن التطلع للأعلى من ضمن طبيعة البشر، فإن حجم التطلع يختلف بين المعنيين بمسيرات الصعود. والمشكلة الكبرى هي أنه مع كل صعود جديد تكون المتواليات قد فعلت فعلها التكاثري، وأوجدت معها مخاطر كون أعداد عاشقي الحفر أكبر من الراغبين بالقمم. عند ذلك ستكون عوائق أي صعود مقبل أكبر.
وهذه الحلول ترتبط باختيار أفضل الجروف وأكثرها متعة، والتأكد من حسن اختيار وتدريب فرق الصعود، والتأكد من وجود الإيمان الحقيقي بمسيرة الصعود، والتأكد من الإقلال من عدد الراغبين بالشد للأسفل قدر الإمــكان عبر سبــل الإقــناع المتــاحة أو تكوين فرق «منفصلة» تناسب كل توجه، وهو الحل الذي يلجأ إليه المفلسون الراغبون بالحلول السهلة. ولذلك كنت وما زلت أعتقد بعبثية الصعود نحو الأسفل.