تعتبر العملة المرآة التي تعكس حالة الوضع الاقتصادي في أي اقتصاد من اقتصادات العالم،والأمر الذي يجري منذ فترة ليس على صعيد الاقتصاد السوري فحسب بل على مستوى جميع الاقتصادات العالمية، ويتمثل في أنه أصبح هناك فصل ما بين الاقتصاد النقدي أي هذا الشعار (العملة) من جهة، وبين الاقتصاد الحقيقي الذي تمثله، والذي يفترض بها أن تعكس حقيقة هذا الاقتصاد بوجعه وآلامه وبسلامته وتعافيه من جهة أخرى.
وقد بدأ هذا النموذج يسود معظم اقتصادات العالم وأصبح يحتاج إلى مزيد من الدقة أثناء التحليل من أجل الفصل ووضع الحدود الدقيقة ما بين الاقتصادين الحقيقي من جهة وبين الاقتصاد النقدي من جهة أخرى.
وبعد أن قيل الكثير عن إثر ارتفاع أسعار الصرف مقابل الليرة السورية على الاقتصاد الجزئي قد يكون استخدام مؤشرات الاقتصاد الكلي خدمة بشكل أو بآخر لمسائل أبعد، وإن كان معظم الحديث المتداول يتعلق بالاقتصاد الجزئي أي العرض والطلب بجزئياته لأن هذا ما يلمسه ويشعر به المواطن.
في هذا الجانب، وحول إثر أسعار الصرف على الاقتصاد الكلي في سورية قال الباحث الاقتصادي الدكتور قيس خضر في تصريح لـ«الوطن»: على صعيد الاقتصاد الوطني كله قد تبدو الصورة جلية ولعل أكبر مثال يمكن أن نسوقه في هذا الصدد هو مسألة ما يسمى حرب العملات.
وأشار إلى أن حرب العملات هو هذا الشعار الذي بدأ تداوله خلال فترة سابقة ليست بالبعيدة، وكانت الولايات المتحدة الأميركية أول من استخدمته باتباع سياسة الدولار الضعيف من أجل الترويج لصادراتها.
وهذا الأمر فقط للدلالة على أهمية سعر الصرف في التعاملات مع الحدود الخارجية، وعندما تقف العملة الوطنية على الحدود قد تصبح الحدود الجغرافية حينها مسألة للمساس بأمن الوطن، وكذلك الأمر يمكن لسعر الصرف أن يكون محلاً للتدخلات الخارجية فيما يسمى بالأمن الاقتصادي لأي دولة من الدول.
ولفت الدكتور خضر إلى أن ما تجب الإشارة إليه هنا هو أن سعر الصرف على الصعيد الكلي سوف يؤثر بشكل مباشر على ميزان المدفوعات وهو من أهم المؤشرات الكلية التي تتأثر بتباين سعر الصرف وفي تفاصيل هذا الأمر المستوردات والصادرات، وعن بنية التغطية فيما يتعلق باحتياطي البلد من العملات الأجنبية، وهي أهم المؤشرات التي يمكن الحديث عنها خلال الحديث عن سعر الصرف فيما يخص الأزمة السورية.
وبيّن أنه بخصوص الصادرات، يمكن القول إن تغيرات سعر الصرف قد أثرت ولكن لم يكن له هذا التأثير الكبير، «فالمشكلة أن الاقتصاد السوري لا يتمتع بإنتاج مرن، ولو كانت لدينا هذه البنية الإنتاجية المرنة لكنا استفدنا من ضعف الليرة السورية أمام الدولار، وكنّا تحدثنا كما يتحدث بقية العالم عما يسمى (الليرة الضعيفة) مثلاً، وهي سياسة تصديرية تشجيعية تمييزية كان يمكن لها أن تسهم في الترويج للصادرات السورية، لكن للأسف لا يمكن أن نطبق هذه الحالة في الوضع السوري».
وأضاف: رغم أن الصادرات السورية شهدت انتعاشاً ملحوظاً مع بداية الأزمة، لكن هناك ضرورة التأكد من الحجم الذي كان من المفترض أن تصل إليه الصادرات السورية، لأن المقارنة ليس بين ما أنجز وما كان قد أنجز سابقاً، فالحديث عن مقارنات بما يسمى «اتجاهات النزعة» من غير المفضل الحديث والنقاش فيها، والأهم هو الحديث عما أنجز وما كان من الممكن إنجازه.
إذاً.. ما الصادرات من سلع وخدمات تم تصديرها، وما الذي كان بالإمكان أن يتم تصديره نحو الخارج؟. لذلك نقول إن الاقتصاد السوري ودون الدخول في التفاصيل يعاني من مشكلات بنيوية هيكلية، والأزمة الأخيرة أفرزتها وجعلتها تطفو على السطح.
وقال: كان الأثر على الصادرات السورية وأزمة الدولار يترافق بشكل طبيعي مع أزمة العقوبات الاقتصادية، وهو ما نلاحظه في موضوع المشتقات النفطية والكثير من سلع الإنتاج الزراعي وغيره، إذ إن التصدير وفتح أبواب التسويق لم يكن على أفضل حالاته أو بما يتناسب مع وضع الأزمة التي يشهدها الاقتصاد السوري حالياً.
وفيما يتعلق بالمستوردات - وهنا كان التأثير الكبير جداً - يقول خضر: لنميز هنا ما بين الاستيراد الحقيقي الذي تم الحصول عليه وما بين المستوردات الوهمية التي تم تداولها، وفقط للاستفادة من تباينات أسعار القطع، وعندما كثر الحديث عن هذا الأمر ثمة من قال إن بعض التجار استفادوا من التغطية النقدية بالقطع الأجنبي التي قدمتها السلطات النقدية بغية تسهيل الحصول على المستوردات، أي بأسعار مخفضة، وللأسف قاموا بأخذ الدولارات بالأسعار المخفضة وباعوها بأسعار عالية في السوق السوداء بناءً على فواتير وهمية لم يتم التحقق منها.
وأضاف: بغض النظر عن هذا الأمر فقد ارتفعت أسعار المستوردات بنسبة الارتفاع في سعر الصرف أو بنسبة انخفاض قيمة الليرة السورية ولكن الخطر الأكبر في هذا الجانب لم يتوقف في هذه النقطة بل في كيفية انتقال مضاعفة السعر من سوق النقد إلى سوق السلع والخدمات الحقيقية، وهذه كانت المعضلة الحقيقية التي يواجهها الاقتصاد السوري في هذه الفترة.
وإذا قلنا إن ارتفاع نسبة سعر الصرف بنسبة 30 إلى40% في بعض الأماكن نقول إن السلع المستوردة تمت مضاعفتها بنسبة 200 إلى 300% عندما وصلت إلى يد المستهلك وهذه كانت نقطة سلبية وسيئة جداً جداً.
وإذا أردنا معرفة المشكلة الحقيقية على مستوى الاقتصاد الكلي فيما يتعلق بسعر الصرف فإنها تكمن في أن هذا الترويج وهذا الضخ الإعلامي الاقتصادي الذي حمل بنية الاقتصاد الكلي ومشاكله على ارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية وانخفاض قيمة الليرة السورية في آن واحد.
وأكد الباحث خضر أن هذه مشكلة كان من الواجب إيلاؤها أهمية وعناية ودراية بشكل أكبر لأن مشكلة الاقتصاد السوري لا تكمن فقط في الاقتصاد السوري لأنه لو كان لديه بنية حقيقية قادرة على حمل الأزمة لكان فعلها، لكن المشكلة أنه حتى أصحاب القرار في السلطتين المالية والنقدية والاقتصادية أيضاً استسلموا لفكرة أن انخفاض قيمة الليرة السورية هو الذي ألقى بظلاله على حالة الاقتصاد الوطني كله، أي إننا نتحدث عن الطلب الكلي والعرض الكلي وعن المستوى العام للأسعار، وهذه هي المؤشرات الثلاثة.
فعندما انفلت هذا المؤشر(مؤشر المستوى العام للأسعار)، وهو من أهم مؤشرات الاقتصاد الكلي ظن البعض أن مجريات الليرة السورية أدت إلى ارتفاعاته المتتالية والمتعاقبة والحادة ولكننا نقول إن ضعف التدخل الحكومي وضعف سيطرة الحكومة على السوق السورية وعدم القدرة على الإمساك بمفاصل العرض والطلب في سورية هو الذي أدى في جانبه الأكبر إلى ارتفاعات الأسعار وليس فقط الانخفاض الحاصل في قيمة العملة الوطنية.