الـ 2000 ليرة الجديدة أصبحت في التداول، وبدأت «التخويفات والتطمينات» حول أثرها على ارتفاع الأسعار... وحرّكت هذه الورقة الملونة الجديدة المياه الراكدة، حول حقيقة الكتلة النقدية الفائضة في السوق، والتي يدور معظمها في نطاق ضيق بين خزائن أصحاب الربح، وعلاقة هذا بارتفاع الأسعار، وحتى باستقرارها وانخفاضها اللاحق.
هل ستؤدي الورقة الزرقاء إلى أثر تضخمي؟ مصرف سورية المركزي والمحللون الاقتصاديون يجيبون بـ لا. وفعلاً إذا ما كانت هذه الأوراق من فئة الألفين سيسحب مقابلها أوراق نقدية قديمة، وبالقيمة ذاتها، فما من أثر يذكر لهذه الكتلة النقدية الإضافية التي ستدخل السوق، وستكون العملية عملية استبدال فقط، ولكن إذا ما تم سحب أوراق نقدية قديمة من التداول، بحجم أقل من كتلة الألفينات الجديدة، فإن الفائض النقدي سيزيد ويؤثر على ارتفاع الأسعار.
وفي الأحوال كلها، الحكومة والمصرف المركزي يقول: استبدال، ما يعني أنه ما من زيادة أو نقصان، فقط الجديد مقابل القديم، وإذا ما كان هذا «كلام بكلام» فإن الألفينات الجديدة ستصطف إلى جانب الكتلة النقدية الفائضة الكبيرة في السوق السورية، و«تزيد الطين بلّة»، وهذا الطين مبلول كثيراً خلال سنوات الأزمة بكميات الضخ النقدي التي قابلها إنتاج متراجع وتداول بطيء.
الزائد عن حدّه.. بيقلب ضدّه
«فالزائد عن حدّ... بيقلب ضدّه» ينطبق هذا المثل حتى على «المصاري»، فكتلة النقود المتداولة في السوق إذا ما كانت فائضة عن وظيفتها الضرورية فإنها تفقد قيمتها، وتصبح الليرات أقل قيمة، وبالتالي ترتفع الأسعار. فوظيفة النقود هي كونها معادل عام، أي بالدرجة الأولى الوسيط المستخدم في عمليات الإنتاج والتداول، وكتلتها يجب أن تكون متناسبة مع الجانبين المذكورين كليهما، مستوى النشاط الاستثماري الاقتصادي الإنتاجي، وسرعة تداوله في السوق المرتبطة بالدرجة الأولى بقدرات الاستهلاك.
وفي سورية خلال الأزمة وحتى قبلها، توجد كتلة نقود كبيرة، مقابل نشاط اقتصادي قليل وبطيء الحركة، وبالتالي فإن الليرات كانت تفقد قيمتها على مدى عقود، حيث كان يمكن الادخار من راتب السبعينيات، بينما راتب اليوم لا يستطيع أن يؤمن الغذاء الضروري للأسرة.
وخلال الأزمة توسعت عملية إصدار النقود الإضافية عبر توسع تمويل الحكومة لإنفاقها بالعجز، أي: بإصدار أوراق نقدية، وبالمقابل تراجع النشاط الاقتصادي الإنتاجي وتراجعت قدرات الاستهلاك إلى مستوى غير مسبوق، وكان هذا السبب الجوهري لفقدان الليرة لقيمتها الحقيقية.
نقود أكثر.. إنتاج أقل
فوفقاً لتقديرات قاسيون فإن كتلة النقود في نهاية عام 2016 كانت قد أصبحت قرابة ثلاثة أضعاف كتلة النقود الموجودة في عام 2010، فخلال ست سنوات زادت كتلة الليرات المتداولة في السوق السورية بنسبة تفوق 280% بالمقارنة مع كتلة عام 2010، بينما النشاط الاقتصادي الإنتاجي المعبر عنه بالناتج المحلي الإجمالي، فقد تراجع حتى نهاية عام 2016 بمقدار يفوق 60%، وفق التقديرات الدولية لتراجع النمو في سورية، أي: عملياً كتلة نقدية تضاعفت مرتين وأصبحت تعادل ناتجاً أقل بمقدار النصف في أحسن الأحوال!
وهذا بثبات العوامل الأخرى يؤدي إلى خسارة الليرة لـ 86% من قيمتها في عام 2010، وارتفاع المستوى العام للأسعار بنسبة تفوق 680%، بين 2010 و 2016، وهو ما يعني أن سعر الصرف إذا كان معبراً عن قيمة الليرة ينبغي أن يكون 340 ليرة مقابل الدولار فقط، رغم أنه بطبيعة الحال يرتبط بعوامل أخرى، كالطلب على الدولار ووزن الاستيراد إلّا أن الثقل الأساسي في تحديد قيمته هو في تغيُّر قيمة الليرة.
إذاً بحال بقاء الكتلة النقدية المتداولة في السوق اليوم ثابتة دون زيادة، مقابل توسع العمليات الإنتاجية، فإن هذا سيؤدي إلى انخفاض الأسعار تدريجياً، وانخفاض الأسعار بدوره يحرك العملية الإنتاجية، لأنه يوسع من قدرات الاستهلاك، ومن تكاليف الإنتاج.
إنتاج أوسع.. أسعار أقل
إذا نقلت الحكومة اليوم الجزء الأهم من أموال موازنتها نحو عملية الإنتاج الحقيقي بتمويل استثماري لمنشآتها الصناعية، وبدعم فعلي لارقمي للإنتاج الحقيقي في الزراعة والصناعة الخاصة، فإنها عملياً تقوم بتحويل كتلة نقدية إلى إنتاج، وتساهم مباشرة في تخفيف فائض الكتلة النقدية، وتخفض الأسعار. فهل تستطيع الحكومة أن تقوم بذلك؟!
طيلة سنوات الأزمة كانت السياسات الاقتصادية تصب في كل ما هو عكس ذلك! فعملياً كل ما يمكن أن يخفض من قيمة الليرة قد تم إجراؤه: حيث زاد إصدار النقود، وبالمقابل تقلص الاستخدام الإنتاجي للنقود المصدرة عندما تم رفع الدعم عن المحروقات، وعندما توقف بشكل شبه كامل الإنفاق الاستثماري للصناعة والزراعة العامة، وتوقف الإقراض بكل أشكاله، ووضعت السياسة النقدية «دابها بداب» سعر صرف الدولار، لتضخ الدولار للسوق مع كل موجة ارتفاع ومضاربة، حيث كانت بهذا السلوك تغذي السوق وتحرض الموجة التي تليها، وأنفق على مضاربات السوق ما يزيد على 5 مليار دولار وفق تقديرات البعض!
ولكن منذ بداية العام الحالي، اتسمت الأسعار بالاستقرار نسبياً، بالمقارنة مع الارتفاع القياسي للأسعار خلال الفترة ذاتها من العام الماضي، فمقابل موجتي مضاربة كبيرتين في شهري 3-5 من العام الماضي، لم يشهد هذا العام ارتفاعاً استثنائياَ لسعر صرف الدولار، ولم يشهد ضخاً حكومياً للسوق، ولم تقم الحكومة على ما يبدو بإصدارات نقدية واسعة خلال هذه الفترة، ومجمل ما سبق مؤشرات إيجابية، تعطي حالة استقرار للسوق، وتساعد المنتجين على التكيف، وتؤدي إلى استقرار نسبي في الأسعار دون ارتفاعات كبرى...
إذا كان استقرار الأسعار ممكناً، فإن تخفيضها ممكن أيضاً، ومفتاحه تحريك الإنتاج، وعدم توسيع الضخ النقدي. ولكن هذه العملية تعني أن يعاد توزيع الكتلة النقدية الموجودة، لتتوجه نحو الإنتاج أولاً ونحو الأجور ثانياً، لأن الإنتاج لا يستطيع أن يتوسع طالما أن قدرات الغالبية من أصحاب الأجور لا تزال في حدودها الدنيا، وطالما أن إنتاجية العمال بأجورهم المنخفضة ضعيفة جداً.
من سيقوم بعملية إعادة التوزيع المذكورة؟ هل الحكومة قادرة؟ كما قلنا وكررنا الحكومة لا تحكم، بل قوى السوق الكبرى هي التي تحدد اتجاه السياسات الاقتصادية وفق مصالحها، ومعظم هؤلاء وتحديداً أصحاب الربح غير الشرعي، وهم وزن هام ليس لهم مصلحة فعلية بزيادة الأجور، أو الإنفاق على دعم الإنتاج، ورغم أن اللحظة الحالية تشهد ربما تراجع قدرة هؤلاء على خلق موجات مضاربة وارتفاع أسعار كبيرة، ولكن إجراء التحولات الكبرى في السياسة الاقتصادية يحتاج أكثر من ذلك... فمواجهة مصالح القلة، طريقها واحد: بزيادة قدرة الغالبية من عموم السوريين أصحاب المصلحة بالتغييرات الجذرية في المعادلة السياسية والاقتصادية. وهو ما سيكون من أهم عناوين مرحلة إعادة الإعمار.
المصدر: صحيفة قاسيون السورية