مقدمة:
لم تكن الأزمة الراهنة في سورية والتي دخلت عامها الرابع السبب الرئيسي لانتشار ظاهرة اقتصاد الظل (الاقتصاد غير الرسمي) والذي يمثل الجانب الآخر للنشاط الاقتصادي في سورية، بل إن هذه الاقتصاد متأصل في الحياة الاقتصادية السورية منذ عقود من الزمن مستفيداً من غياب الرقابة والمحاسبة على أنشطته وأفراده في ظل تعزيز لأسبابه المختلفة التي سنأتي على ذكرها في متن هذا المقال.
ومن جانب آخر، فقد أدت السياسات الاقتصادية المتلاحقة خلال السنوات السابقة إلى نمو هذا الاقتصاد الخفي بشكل مضطر، والذي يشير بشكل أو بآخر إلى ضعف الاقتصاد الوطني وعدم قدرته على استقطاب قوة العمل الوافدة نظراً لعدم قدرته على خلق وظائف لها، والدليل على ذلك الارتفاع المستمر لنسبة البطالة في سورية حتى وصلت الآن إلى ما يقارب 65% وسط الغياب التام لكافة الإحصاءات الحكومية.
فظاهرة الاقتصاد الخفي تشترك بها كافة دول العالم المتقدمة والنامية، وتعد من الظواهر القديمة في المجتمعات الاقتصادية، بل أنها في بعض الحالات تنمو بمعدلات أكبر من الاقتصاديات الرسمية، بل ويمكن التأكيد بأن كل منا كأفراد يشارك فعلاً بشكل أو بآخر في أنشطة هذا الاقتصاد، سواء بعلم أو بدون علم.
مفهوم الاقتصاد الخفي (الاقتصاد غير الرسمي_ اقتصاد الظل):
يشمل الاقتصاد الخفي كافة الدخول التي لا يتم الكشف عنها للسلطات الضريبية والتي تدخل أو لا تدخل ضمن حسابات الدخل القومي، ويتفق الكثير من الباحثين على أن مصطلح الاقتصاد الخفي يضم مجموعة مختلفة من الأنشطة التي تشترك في محاولة التهرب الضريبي، أو الحاجة إلى تجنب القيود الروتينية الموضوعة على عملية ممارسة النشاط الاقتصادي، أنشطة الرشوة والعمولات والسرقة وبيع السلع المسروقة وتجارة المخدرات وأنشطة التهريب السلعي، وتهريب الأموال وأنشطة القمار والدعارة وأنشطة المافيا... إلى آخر هذه القائمة الطويلة من الأنشطة التي تعد مخالفة للقانون تمثل جانبا لا يمكن إهماله من أنشطة الاقتصاد الخفي.
ومن ذلك يمكن تعريف الاقتصاد الخفي بأنه " كافة الأنشطة المولدة للدخل الذي لا يسجل ضمن حسابات الناتج القومي إما لتعمد إخفاءه تهرباً من الالتزامات القانونية المرتبطة بالكشف عن هذه الأنشطة، وإما بسبب أن هذه الأنشطة المولدة للدخل بحكم طبيعتها تعد من الأنشطة المخالفة للنظام القانوني السائد في البلاد
العلاقة العكسية بين الاقتصاد الرسمي والاقتصاد الخفي:
تتصف العلاقة بين الاقتصاد الخفي والاقتصاد الرسمي بالعكسية، فكافة النواحي السلبية لأداء الاقتصاد الرسمي مثل انخفاض معدلات النمو وزيادة معدلات البطالة والتضخم تؤدى إلى زيادة مستوى الاقتصاد الخفي.
ويمكن القول أن النمو البطئ (أو السالب) في الاقتصاد الرسمي يؤدي إلى تخفيض معدلات الزيادة في الدخول الحقيقية للأفراد، مما يساهم بشكل مباشر في زيادة الضغوط عليهم ويدفعهم للبحث عن تدعيم مصادر دخولهم الخاصة بغية المحافظة على مستويات المعيشة الحالية، وتزداد هذه الضغوط في حال كان كساد الاقتصاد مترافقاً بزيادة في الضرائب على الدخل بغية تمويل الإنفاق الحكومي المتزايد، أو مع ارتفاع معدل الفائدة على القروض العقارية، وهو ما يؤدى إلى تخفيض الدخل الشخصي المتاح للإنفاق والمولد من الاقتصاد الرسمي بصورة كبيرة، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة عرض العمل في الاقتصاد الخفي كنتيجة لارتفاع معدل البطالة في الاقتصاد الرسمي، وتزداد الضغوط للتحول إلى الاقتصاد الخفي إذا كان الأفراد يحصلون على مدفوعات في صورة إعانة بطالة أو أي إعانات أخرى، حيث سيفضلون عندها الحصول على أجور أقل، لتدعيم دخلهم من الإعانات بما يمكنهم من المحافظة على نفس مستوى المعيشة الذي كانوا يحصلون عليه من خلال العمل لساعات أقل في الاقتصاد الخفي، وهذا الانخفاض في الأجور يساهم بزيادة القدرة التنافسية للموردين في الاقتصاد الخفي.
إضافة لذلك فارتفاع معدلات التضخم تؤدي إلى:
1_ زيادة حجم الاقتصاد الخفي من خلال زيادة الطلب على السلع والخدمات المنتجة في الاقتصاد الخفي.
2_ تؤثر على تقييم الأفراد لقوتهم الشرائية، سواء كانت تتناقص أم لا، مما يدفعهم للسعي إلى تخفيض تكلفة السلع والخدمات التي يشترونها في مقابل جودة أقل من الاقتصاد الخفي.
ومن ناحية أخرى، فان نمو الاقتصاد الرسمي يزيد من حجم الاقتصاد الخفي لآثاره على عرض العمل. حيث أن التوسع في الاقتصاد الرسمي يؤدى إلى زيادة دخول الأفراد وزيادة أعمالهم في الاقتصاد الرسمي مما يقلل الوقت المتاح لدى الفرد لأداء بعض المهام البسيطة التي عادةً يقوم بها الفرد بنفسه مثل (طلاء المنازل وإصلاح السيارات، العناية بالحدائق .. الخ)، ويزداد الدافع نحو عمليات شراء هذه الخدمات بدلا من أن يؤديها الفرد بذاته مع نمو الاقتصاد الرسمي الأمر الذي يستفيد منه الاقتصاد الخفي بالدرجة الأولى.
أسباب نمو الاقتصاد الخفي
أولاً: ارتفاع مستوى الضرائب:
يؤدى نمو العبء الضريبي سواء مباشر أو غير مباشر إلى رفع نسبة الضرائب إلى الناتج القومي، وهو ما يسبب محاولة التهرب من دفعها، وكذلك يؤدى ارتفاع العبء الضريبي إلى تحويل بعض الأنشطة إلى الاقتصاد الخفي بغية عدم تسجيلها وبالتالي عدم دفع الضرائب، ويتوقع أن تؤدى كل أشكال الضرائب إلى تحول المشروعات نحو الاقتصاد الخفي.
تأثير كل نوع من الضرائب على نمو الاقتصاد الخفي في دول العالم:
1_ نمو الاقتصاد الخفي في الولايات المتحدة يعزى إلى الضرائب على الدخل.
2_ نمو الاقتصاد الخفي في أوروبا يعزى إلى ارتفاع اشتراكات التأمينات الاجتماعية والضرائب على القيمة المضافة.
3_ نمو الاقتصاد الخفي في السويد يعزى إلى ارتفاع معدل الضريبة على الدخل الاضافى.
4_ نمو الاقتصاد الخفي في الدول النامية (ومن بينها سورية) يعزى إلى أن الضرائب المرتفعة على التجارة الخارجية تساهم بتحول المشروعات نحو الاقتصاد الخفي.
ملاحظة:
إن تخفيض معدلات الضريبة قد لا يعنى بالضرورة القضاء على الاقتصاد الخفي، وذلك لكون المتعاملين في الاقتصاد الخفي يتمتعون بمعدل ضريبة يساوى صفرا.
ثانياً: النظم والقيود الحكومية
تمنح عدداً من الدول (خاصة الدول الصناعية) بعض المزايا لرفع مستويات الرفاهية العامة للأفراد المقيمين داخل حدود دولهم. والتي تتناسب عكسيا مع الدخل، أي تصرف عندما ينخفض الدخل إلى مستوى معين. فعندما يزداد دخل الفرد مستوى معين يصبح الفرد غير مؤهل للحصول على الإعانة الاجتماعية، أو يحصل على بعضها، مما يدفع هؤلاء الأفراد إلى دخول الاقتصاد الخفي كي يحصلوا على إعاناتهم كاملة.
ثالثاً: دور المشروعات الصغيرة
تقوم المشروعات الصغيرة على استخدام النقود السائلة في إبرام المعاملات، مما يؤدي إلى زيادة الأهمية النسبية للاقتصاد الخفي في العديد من الدول نظراً لسهولة التهرب من الضريبة عندما يكون حجم المشروعات صغير نسبياً.
رابعاً: ندرة السلع
إن الأسعار لا تعكس مستوى الندرة، ونظراً لكون السلع الأساسية تباع بأسعار مدعمة تنتشر ظاهرة الطوابير وزيادة الطلب على السلع الاستهلاكية مما يؤدي إلى ازدهار أنشطة الاقتصاد الخفي من خلال إعادة بيع هذه السلع بصورة غير قانونية، أو من خلال محاولة إنتاج هذه السلع في الاقتصاد الخفي لتلبية احتياجات الطلب عليها.
الآثار السلبية للاقتصاد الخفي:
أن وجود الاقتصاد الخفي يؤدى إلى تشويه بيانات الناتج القومي الاجمالى، ويؤثر على المعلومات كمستويات التشغيل والبطالة وأنماط توزيع الدخل ومستويات الادخار الحقيقي في المجتمع.. الخ.
ومن الآثار السلبية أيضا:
1_ فقدان حصيلة الضرائب
لان جانبا من الدخل لا يدفع عنه ضرائب، نتيجة عدم قيام الأفراد بالكشف عن دخولهم للسلطات الضريبية، مما يؤدى إلى انخفاض حجم الإيرادات العامة عندما يصبح حجم الاقتصاد الخفي جوهريا، وزيادة مستويات الضرائب على الأنشطة التي تتم في الاقتصاد الرسمي.
2_ الأثر على سياسات الاستقرار الاقتصادي
إن النمو السريع الاقتصاد الخفي يؤدي إلى فشل سياسات الاستقرار الاقتصادي وتشويه المؤشرات الخاصة بسياسة الاستقرار الاقتصادي.
3_الأثر على توزيع الموارد
إذا حدث نمو في الاقتصاد ككل، بما فيه الاقتصاد الخفي، ستزداد الحاجة إلى المزيد من الخدمات العامة، وبما أن الضرائب تجمع من الاقتصاد الرسمي فقط فان مستوى الضرائب على الأنشطة التي تتم في الاقتصاد الرسمي سيزداد، وتؤدى هذه الزيادة في الضرائب إلى تحول بعض الأنشطة إلى الاقتصاد الخفي، مما يزيد من التهرب الضريبي، ونتيجة لذلك تصبح المنافسة غير عادلة بين الاقتصاد الخفي والاقتصاد الرسمي مما يمكن الاقتصاد الخفي من اجتذاب قدر أكبر من الموارد. وسوف يستمر هذا التدفق من الموارد المحولة من الاقتصاد الرسمي نحو الاقتصاد الخفي طالما أن معدلات العائد الصافي ( بدون الضريبة ) أعلى في الاقتصاد الخفي عن الاقتصاد الرسمي.
توصية:
يوصي الكاتب بما يلي:
1_ ضرورة العمل على احتواء اقتصاد الظل بما يعزز إيجابياته ويقلص سلبياته كونه يعد الأصل في الدول النامية بينما الاقتصاد الرسمي يعد استثناءً، وذلك من خلال ضبط تراخيص اللازمة ومنحها بعد تحقيق شروط معينة يتم تحقيقها لأن من شأن ذلك تحقيق إيرادات جيدة للدولة وتأسيس شركات قد تساهم بتخفيض نسب البطالة شيئاً فشيئاً.
2_ من الأهمية بمكان وضع خطة لإعادة فرض الضرائب بما يتناسب مع قدرة المواطن الضريبية، العمل على تلافي جميع الانتقادات الموجهة للسياسة الضريبية في سورية.
3_ تطوير حجم الاقتصاد الرسمي من خلال تعزيز شركاته ومؤسساته بما يساهم في خلق فرص عمل "كريمة" لقوة العمل واستقطاب من هم في الاقتصاد غير الرسمي.
4_ العمل على مكافحة الفساد الإداري والأخلاقي بما يعزز من الثقة بالاقتصاد الرسمي ويحول دون تسرب العمالة الى اقتصاد الظل.
5_ العمل على سن التشريعات والقوانين التي تساعد على تطوير الاقتصاد وزيادة معدل النمو الاقتصادي، وتساهم في دمج هذين الاقتصادين مع بعضهما.
6_ إعادة النظر بشكل جدي بآلية الرواتب والأجور والعمل على رفعها بما يتناسب مع حاجة المواطن المعيشية.